الثقة بالنفس: كيف تكونت تصوراتنا عن أجسادنا؟

1798

يقول “هوراس” (أديب لاتيني): “إن الواثق بنفسه يقود الآخرين”، فأتساءل هل جرب “هوراس” أو غيره من الرجال، أن يضعوا أقدامهم  في أحذيتنا نحن النساء ولو لمرة واحدة؟ كي يتذَوّقوا مرارة التية حين نلتقط شيئًا من الأرض، بينما يرهقنا أمر انحسار الملابس وكشف شيء من أجسادنا، في اللحظة التي تتربص بها عين لاهثة وراء أي فتات أنثوي عابر؟ عن أي ثقة حينها سيتحدثون كي يقودون أنفسهم، لا أقول الآخرين؟! الثقة التي يستقيها البشر من تجاربهم ناجحها وفاشلها، والتي لا دخل لأجسادهم بها، أم الثقة بالنفس التي تُبددها التعليقات المسيئة على هيئتهم وكم هي قبيحة؟ فكم من فتاة دُمرت ثقتها بنفسها، بينما هي طفلة! وكم من امرأة تعثرت خطاها بالحياة واستسلمت لليأس كون أحدهم أخبرها أنها ليست أنثى! ولأجل هؤلاء أكتب السطور التالية.

متى تتكون الصورة الذهنية للفتاة عن جسدها؟

بعكس ما يتصور كثيرون، أن الأنثى تبدأ في تكوين الصورة الذهنية لمعالم الأنوثة بدءًا من سن البلوغ أي ما بين 9 إلى 14 عامًا، فهي تبدأ أبكر من ذلك بكثير، وتحديدًا مع إدراكها لمعانٍ كالقبح والجمال، ولعل تباين العوامل المؤثرة في إدراك تلك المعاني، أدى بدوره إلى تباين في طبيعة العمر الذي تدركها فيه، فعوامل كالبيئة والطبيعة الشخصية ومعدل الوعي والذكاء قادرة على جعل فتاة في السادسة من عمرها تعيش في مأساة حقيقية، فقط لأنها سمعت من يقول لأمها إنها لولا شعرها المُجَعد لكانت حسناء، بينما تجيب ملامح الأم بامتعاض يؤَكد المعنى ويزيد من فداحة أثره.

لكن ما أن تبدأ مرحلة البلوغ، حتى تتحول كل هذه الخبرات السلبية التي كونتها الفتاة عن جسدها من خلال التعليقات السلبية عليه، تنتقل من حيز الفضاء الذي يحوم بسقف غرفتها ليلاً، ليصير حقيقة تختبرها يوميًا في معملها الخاص أمام المرآة، بينما تبارزها مئات الأنماط الجاهزة عن الجمال: ماذا أفعل كي يصير وزني أقل؟ لماذا بشرتي قاتمة؟ لماذا قامتي أكثر طولاً مما يجب؟ ما الحل في الشعر الزائد الذي يجعل أمي تنفر مني كلما طالعتني؟ ماذا أفعل في قيد الأنوثة هذا الذي صار حملاً عليّ؟

العوامل المؤثرة: كيف تتكون صورة البنت عن جسمها

1. التربية الجنسية: عامل الضبط الأول

يختلف نمط التربية الجنسية من أسرة لأخرى، ففي بعض الأسر حتى وقتنا هذا يظل مصطلح “التربية الجنسية” حبيس محركات البحث، لا تجرؤ أم على الحديث مع ابنتها عما يتعرض له جسدها من تغيرات، وما قد يعقب تلك التغيرات من تحولات في هيئة أعضائها، وحالتها المزاجية، وبالتالي تجد مفاهيم كالعيب والغلط والحرام البيئة الصالحة لتنمو، بحيث يصير جسد الفتاة كله مصدر عار، أو في أفضل الحالات تحفُظ. وحقيقة التربية الجنسية السليمة هو قيام الأم أو الأب “أيهما أكثر قربًا من الفتاة أو الشاب، بالحديث عن تغيرات مرحلة البلوغ، ويُفضِل غالبية الخبراء أن يتم هذا الحديث قبل البلوغ، أي في عمر العاشرة بالنسبة للفتاة مثلاً، بحيث يُكشف الستار عن أي غموض قد يعتري نظرة الفتاة لجسدها والتغيرات التي تحدث له.

2. الثقافة العامة: كيف أجد شغفي ؟

من الأشياء التي أجدها جوهرية في تربية الإناث خلال مرحلة البلوغ، هي إرشاد البالغين لهن على طرق غير تقليدية لاكتشاف الذات، تحديدًا في ظل إتاحة هذا الكم الهائل من المعلومات والأبحاث والكتب أمامهن، فالفتاة التي تهتدي لشغفها مبكرًا، هي فتاة تعرف دروبًا للتوصل لحقيقتها، وبلوغ سبل آمنة للتواصل مع حقيقة من تكون، أكثر من أخرى، لا تزال في طور التكوين والتطَوّر وأكثر ما يشغل بالها هو أن يكون مظهرها محط انبهار الآخرين.

3. المجتمع: جسد البنت ليس ملكًا لها

مجتمع الفتاة هو تلك الدائرة التي تضيق، لتضم أمها وأباها وإخوتها وأصدقاءها المقربين، وتتسع حلقاتها لتشمل أقاربها وزملاءها وجيرانها وكل من تلتقيهم خلال حياتها اليومية، ولهذا المجتمع طبيعة تشبه بصمة الإصبع، فمجتمع القرية يختلف عن مجتمع المدينة ومجتمع الحي الشعبي، يختلف عن المجتمع الراقي. وإذا كان ما يعنينا في هذا المجتمع، الحديث عن تأثيره السلبي في تكوين صورة مشوهة للفتاة عن جسدها، فإن أول ما يجب أن تُرسخه دائرة الفتاة الصغيرة في عقيدتها، هو التمسك بأحقيتها الكاملة في امتلاك جسدها، بداية من رفض التعليق عليه سلبًا وإيجابًا، وانتهاءً بعدم السماح للآخرين بمساسه بأي صورة.


أثر المقارنات والتنمر والتنميط على الثقة بالنفس

المقارنات: كيف أحب نفسي؟

لن نقول كل فتاة، بل كل إنسان، لديه مواطن الجمال الخاصة به، كما لديه مواطن يعتريها النقص، وهذا الأمر لا يتعلق فقط بجمال المظهر الخارجي، لكن في مجتمعاتنا، يتم تفريغ هذا الجمال من مضمونه ليتعلق فقط بجمال المظهر الخارجي، وبالتالي قد تجد فتاة بعمر الـ13، رقيقة الحس، مرهفة المشاعر، خجولة، مقبولة الهيئة، عاجزة عن التوصل لـ5 أسباب فقط كي تحب نفسها، فقط لأن المحيطين بالبيت والمدرسة والشارع وضعوها تحت مقصلة المقارنة مع فتاة حسناء -من حيث المظهر الخارجي- بنفس عمرها.

والحقيقة أن ليس للجمال وصفة ثابتة، فهو نسبيٌ جدًا، فمن يستطيع أن يُجزم أن جميع الشقراوات حسناوات، أو حتى ذوات البشرة الخمرية أو الداكنة؟ فمقارنة الشقراء بالسمراء وبيان أيهما أكثر جمالا لا يعكس بحال من الأحوال سوى شيء عن قصور فهم المُقَارِن وضعف استيعابه لفكرة الجمال الشاسعة.

التنمر: العنف النفسي يبدأ من العائلة

أظن أن مصطلح التنمر صار واحدًا من المصطلحات التي يساء استخدامها وفهمها على حد سواء، وببساطة نحن نتحدث هنا عن التنمر بالمظهر، وهو كل ما ينطلي على التقليل من الآخر، ووضعه في موضع خزي مستندًا على شكله وهيئته، وقد يمارس هذا النوع من العنف النفسي أحد أشد الناس قرابة بالفتاة، كأمها وأبيها مثلاً “ليه مطلعتش حلوة زي مامتها!” ، أو عن طريق أحد الأقارب أو الأصدقاء، أو حتى الغرباء ممن تصادفهم بالطريق، ويؤدي هذا النوع من السلوك العدواني لضعف حلقة الثقة بالنفس لدى الفتاة، تحديدًا مع تكراره وإن تم بصورة عفوية.

التنميط: مقاييس الجمال ثابتة وصارمة

تتولى ثقافة المجتمع ومنابر إعلامه المسؤولية في هذا النوع من التشوه في تكوين صورة الفتاة عن جسدها وذاتها، حينما ينتقي صورًا بعينها هي أقرب للابتذال ويصدرها كتعريفه المثالي للجمال، وأي خروج عن ذلك التعريف، يعني بلهجة قاسية أنكِ فتاة قبيحة! في حاجة لاستخدام كريمات الفرد المدمرة للشعر، وكريمات تفتيح البشرة التي يحتوي معظمها على مواد ضارة بالصحة، أو ربما الخضوع جثة مخدرة لإجراء عملية تجميلية تضمن لكِ الوجود ضمن المنطقة الآمنة لمعالم الجمال المثالي.

ضعف الثقة بالنفس: ماذا يدفعنا للعلاقات المسيئة؟

تُعرف العلاقات المسيئة بأنها نوع من أنواع العنف النفسي أو الجسدي أو الجنسي أو المادي، أو جميعها، والذي من الممكن أن يتعرض له أحد الطرفين في العلاقة، وتعتمد على السيطرة وفرض القوة على هذا الطرف، بالإضافة لاستغلاله، وعادة ما يكون الطرف الذي يُساء إليه هو الطرف المستَضعف اجتماعيًا، وهو المرأة.

وحينما نتحدث عن فتاة، وُصفت منذ نعومة أظافرها بالقبح، وشبّت بينما يحاصرها تساؤل جائر “إنتِ شايفه نفسك على إيه؟”، بينما يخبرها المارة في الشارع أن حجم أنفها أكبر من اللازم، فمحاولات الصمود أمام ذئب بشري، متمرس على معسول الكلام، يداعب أذنها التي لم تذق من حلو الكلام ولو فتات، تكاد تكون مُعدَمة.

وفي أفضل الظروف، قد تجد نفسها ضحية لزوج، يحفظ مواطن جراحها الغائرة ككف يده، ويعرف تمام المعرفة كيفية المضي عبر هذه الجراح بكل ثقله، لتعود من رحلة ظنونها على صدمة “إنتي أصلاً تحمدي ربنا إنك لقيتي حد يبصلك ويشوفك ست”، “إنتي مبتشوفيش الستات حواليكي عاملين إزاي؟”، وغيرها الكثير من عبارات وممارسات الإهانة التي تنال من مخزون الثقة بالنفس، ويجعلها عارية تمامًا من الأمان والطمأنينة.

دور الأب في علاقة البنت بجسمها

الدور الذي يمكن وصفه بالمحوري، في حياة أي فتاة، تتفتح للحياة، هو دور الأب، الذي يمثل الصورة الأكثر أهمية للرجل في حياتها، وكلما كانت تلك الصورة نموذجية وتماثل تمامًا ما تريده الفتاة في أبيها، كلما أخذت علاقتها بالجنس الآخر منحى مختلفًا، حتى لو تعرضت مستقبلاً لما يمكن وصفه بـ”إساءة” عن طريق هذا الممثِل للجنس الآخر في حياتها، كذا تتأثر الفتاة بكم التفهم والمرونة في التعامل والدلال والمحبة التي يكنها لها أبوها، ويعبر عنها في كلمات محببة للنفس، لا تميل للمبالغة ولا يشوبها تحفظ.

معالم الأنوثة الحقيقية

ربما تجد تعريفات لا حصر لها للأنوثة والجمال، لكن في تعريفي الخاص، أظنها كل ما اقترب من الذات في بساطة وخفة، وصار معبرًا حقيقيًا عنها، فما حاجتي لأن يصير أنفي مثاليًا، وأتلحف بجسد ممشوق التضاريس، بينما في حقيقة أمري أنا فتاة لا تثق في ذاتها، وتتخذ هذا الجسد حائط، تحتمي به من نقصها وقصورها؟

لذلك فالأنثى الحقيقية هي أنثى تجد في نفسها مواطن الجمال وتتخطى تلك النظرة المحدودة للجمال الخارجي، كجمال الاحتواء والاهتمام بالتفاصيل والحنان والمرونة والرقة والعطاء، كذلك الوعي بمواطن القوة في الضعف الأنثوي الذي لا يحيل الفتاة لكم مُهمل، لا قيمة له، بحيث تعتمد في إدارة وقتها على تخطيط واعٍ، يحركه وعيها بأهمية دورها وخطورته كأم وزوجة وامرأة عاملة.

والحقيقة أنني أجد مواطن مُشوّهة للأنوثة في فتيات، كان السبب فيها إناث أخريات شوهت التجربة أنوثتهن، فرحن يحثن على أن تكون البنت مستقلة ماديًا ومتحققة عمليًا، بغض النظر عن باقي أدوراها الأساسية في الحياة، بحيث تقضي غالبية عمرها في تنفيذ المخطط بحذافيره، مع كرهها لأنوثتها. كذلك الأنثى التي تخرج للمجتمع بوفاض خالِ من الأحلام والتطلعات الشخصية، وكل ما يشغل بالها هو الزواج والإنجاب، هي أنثى تسيئ تقدير ذاتها، لأن هذه البيئة المحدودة لن تورثها غير العقل القاصر والروح الملولة، والجسد الذي يشعر لا يشعر إلا بالرثاء لحاله.

والحل من وجهة نظري، في ذلك الخيط الرقيق بين الطموح الشخصي والطموح الأسري، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، فالفتاة لديها قدرة سحرية على إدارة أصعب الأزمات وتخطيها، بينما تعلو ثغرها ابتسامة رقيقة.

كيف أزيد ثقتي بنفسي ؟

إذا كنا سنتحدث عن الثقة بالنفس، فلا بد أن نعي أهمية تلك النفس، التي سنوليها ذلك الاهتمام والحب، بحيث تطرح الثقة.. النفس التي يجب أن تكون مُحبة للخير، متمسكة بكل ما يثبت جذورها بالأرض، متخلية عن كل ما يُعيق حريتها، مؤمنة بأن كونها خُلقت أنثى لهى هبة حقيقية، لا مجرد شعارات تُردد في كل احتفاء بها.

وقبل أي شيء، إذا أردت أنثى تثق بذاتها، فلا بد أن تؤمن تلك الأنثى بأن عاطفتها ومشاعرها ليست مواطن خزي أو عار، فالحنان والعطاء والاحتواء مواطن حقيقية للفخر، وليس بمقدور أي إنسان أن يتصف بها بسهولة.

وهنا تجدر الإشارة إلى سوء استخدام المرأة لضعفها الفطري، بحيث تصير منسَحِقة تمامًا أمام الآخر، بدعوى أن الرجل يحب المرأة الضعيفة، لما في ذلك من خطورة في جلب عدم مكتملي الرجولة، هؤلاء ممن يرون الرجولة صوتًا عاليًا، وأنثى لا ترد بأكثر من “حاضر”، فهذا من شأنه أن يستنفد أنوثة المرأة ويمتهنها بحيث تتحول لنقمة، تلعنها كل دقيقة.

ويقيني الثابت كأنثى يخبرني، أن كل أنثى حقيقية تعلم كيف تُمهد طريق أنوثتها، كلما اعتراه خطب، فهذه فطرة، نُفطر عليها، فالأنوثة قد يُعكر حُسنها شيء، لكنها سرعان ما تعود لطبيعتها الأولى، وقد ازدادت ألقا على ألقها.

المقالة السابقةأزمة منتصف العمر
المقالة القادمةماذا لو نظرت لوالدتك على أنها ليست أمًا فقط؟!
منى وهدان
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا