احضن ناقدك الداخلي

100

 

بقلم: رفيق رائف

 

اكتشفت زمان مصطلح “الناقد الداخلي”. وهو مصطلح يعبّر عن الجزء اللي جوَّا كل حد فينا، اللي دايمًا بينقده على كل حاجة وأي حاجة بيعملها أو مش بيعملها. هو ناقد، فهو دايمًا لابس نظارة سلبية عني، عادةً بيهاجمني ويقول لي: “أنت مكنتش كويس في الموقف دا”، “تلاقيهم شايفينك وحش”، “أنت مش بتشتغل كفاية”، “أنت بتدّلع” .. الصوت دا عادةً بيصاحبني وأنا بعمل كل حاجة في حياتي؛ سواءً كانت مذاكرة، أو رياضة، أو تعلم حاجة جديدة، أو في الشغل، أو في العلاقات.

هو دايمًا قاسي عليّ، ومش راضي عني، دايمًا شايفني مُقصِّر وبيلومني على كل حاجة بعملها أو مش بعملها. هو مش بيشوف أني إنسان محدود في الطاقة والمجهود خالص، هو دايمًا بيشوف أني ممكن أعمل كل حاجة في كل وقت. ومن اسمه كدا، هو جوَّا كل واحد فينا، وبيتكلم حتى لو اللي حوالينا متكلموش. حتى لو عملت حاجة حلوة واللي حوالي أبدوا إعجابهم بيها، هو بيشوف أنها ناقصة وأنها كان ينفع تبقى أحسن.

لو البقية موجوهوش لي لُوم على حاجة، هو بيلومني. لو البقية طبطبوا علي، هو بيقول لي كلام يسم البدن وينغص علي عيشتي علشان مصدقش الطبطبة دي للآخر. بتخيله دايمًا عابس الوجه ومكتئب ومش راضي عني، ومهما أعمل مش بيرضى، أو حتى لما بيرضى عني (ودا نادر جدًا) بيكون على مضض كدا، وكأنه لازم يخلط رسايل الرضا عني برسايل ثانية فيها نصايح وخوف من المستقبل. “كويس أنك كمّلت شهر في الدايت، بس يا رب تكمّل علشان أنت هتكسل وتتدلع بعد كدا”، “كويس أنك نجحت في الامتحان، بس اوعى تفتكر علشان أنت شاطر، دي جت معاك بالحظ”.

كنت متعود أتخانق معاه. أوقات أسكّته وأشخُط فيه وأقول له: “اسكت بقى كفاية، أنا تعبت منك”. وأوقات أحاول أساومه علشان يسكت “أنا هذاكر كويس، بس علشان خاطري متسمعنيش كلام يسم البدن”. وأوقات أتجاهله، وأعمل الحاجات اللي أنا عارف أنه هيعنّفني عليها بس وأنا خايف منه لما يصحى وصوته يعلى جوَّايا.

لكني اكتشفت أن الخناقة معاه مش بتكبرني. وكل محاولاتي أني أخليه يسكت، مش بتسكته، وساعات بتخلي صوته يعلى أكثر. وكل ما صوت الخناقة جوَّايا يعلى؛ ببقى منهك ومستنزف أكثر، مش ببقى عارف أستمتع بوقت راحتي لأنه بيأنبني على أي وقت برتاح فيه، ولا ببقى عارف أنجز وقت الشغل؛ لأن دايمًا صوته مصاحبني بيخوفني أني بضيع وقت ومش بشتغل كويس. الخناقة دايمًا بتكعبلني جوَّايا، وبتخليني في صراع أكثر مع نفسي. ودا بيخليني مستنزف، ومش عارف أعيش اليوم بيومه. 

مُؤخرًا بدأت أكتشف أن هذا الناقد الداخلي مش هدفه يرخم عليّ، ومش قصده حاجة وحشة. هو في النهاية عايز يحمي الجزء الحسَّاس اللي جوَّايا، اللي خايف من أنه يفشل في مشروع مثلًا أو خايف أنه يسمع كلام وحش من الناس أو يبص له نظرات وحشه.

لو جرَّبنا نسأله: “أنت ليه بتعمل كدا؟ ليه دايمًا بتنتقدني وبتشوف الوحش في كل حاجة؟ هل فيه حاجة معينة خايف منها؟”، في الأغلب هيقول: “أيوا، أنا عايز أحميك من الألم ومن الوجع”. لو سألناه: “ازاى بتشوف أنك بتحميني من الألم؟” ، هيقول: “أيوا طبعًا، لو حسستك بالخزي في كل خطوة، ساعتها هتفضل تحسّن من نفسك، وبعدها هتكون آمن من أنك تسمع كلمتين بايخين من الناس اللي حواليك، وهتكون آمن من الفشل ومن الإحباط، أنا ساعات حتى بحاول أقلل ثقتك بنفسك علشان متاخدش مخاطرات كبيرة، علشان خايف عليك تفشل وتتألم بعدها”.

في الأغلب بيكون دا منطقه، أنه يحمينا من الشعور بالخزي عن طريق أنه يحسسنا بالخزي، أو أنه يحمينا من الفشل عن طريق أنه يتوقع الفشل في كل خطوة. بيخاف علينا نصدق أننا كويسين وشاطرين، أحسن نتدلع ونبلَّط في الخَطّ ومنعملش حاجات ثانية. هو غالبًا تكوَّن أثناء الطفولة، وفضل صوته ومنطقه بنفس الطريقة من غير ما يكبر أو يتغير، وممكن مكنش عنده فرصة يتعلم طريقة ثانية للحياة غير اللي تعوّد عليها دي.

اتعلمت أن سكة التعافي فيها احتواء ليه، مش خناقة معاه. فيها بشوفه وبسمعه، لكن مش بصدّقه. فيها بعوِّده على قبول أنصاف الحلول، وأوقات أرباع الحلول، وأشجعه يصدق في أن رُبع الخطوة أوقات كثيرة بتكون كفاية، وشوية شوية تبقى خطوة كاملة. بحاول أعلمه يمتنّ ويشوف الحلو في نفسه وفي إنجازاته؛ مهما كانت صغيرة، وأنه مش لازم الإنجازات تبقى كبيرة أو كاملة علشان نحتفل بيها. مؤخرًا جات لي هدية جميلة مكتوب عليها “Celebrate every win” / “احتفلْ بكل انتصار”. علشان أتشجع أشوف انتصاراتي مهما كانت صغيرة، ومش بس أشوفها على مضض، لكن أحتفل بيها من غير ما أخاف من نفسي أنها هتتدلع وتتكاسل. أنا محتاج أسمع الناقد الداخلي وأفهمه، وأفهم مخاوفه بس كمان محتاج أفصل نفسي عن صوته، وأميز أنه مجرد صوت الجزء الحسَّاس اللي خايف جوَّايا، وأنه غالبًا خايف من حاجات مش حقيقية، أو بيحميني بطريقة طفولية شوية. محتاج أتعلم أحضنه، وألعب معاه كمان، ومخدوش على مَحمَل الجد في كل الأوقات .. يمكن ساعتها أعرف أتنفس، وأعيش حياة أكثر سلامًا وبراحًا.

 

المراجعة اللغوية: عبد المنعم أديب.

المقالة السابقةسبعة من عشرة 
المقالة القادمةإلا حتة

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا