رحلة تعليم

280

 

بقلم/ كرستينا ناجي

 

تتراقص الطبقات الخفيفة من الستائر في خِفة ودلع، مُستجيبةً لنسمات الهواء اللذيذة، مُعلنةً بحركاتها تلك اعتدال الجو نسبيًّا، وبدء الربع الأخير من العام.

تظهر أيضًا في الأجواء رائحة ثمرات الجوافة المميزة، اعتدت على رائحتها في بيت أمي، جوافة صغيرة الحجم موضوعة في طبق بلاستيك ملون، إلا أن رائحتها النفَّاذة تذكِّرني فورًا وفي ضجر بقُدُوم عام دراسي جديد!

رائحة الورق والمَقْلَمة الجديدة، المنضدة المزدحمة بالأقلام، شنطة المدرسة ورحلة اختيارها؛ إلا أن ظهور طفرة العجلات الجرَّارة فيها أضافتْ حماسًا لا يمكن إنكاره.

شهر سبتمبر، وبدء العودة إلى المدارس، تختلف الأحاسيس في هذا الوقت؛ البعض يشعر بحماس البدايات، السعادة للرجوع لليوم المنتظم، وآخرون على النقيض؛ فهذا الوقت هو بداية العذاب ورحلة الحفظ وحشو الدماغ بالمعلومات والامتحانات الفجائية، والاستيقاظ مبكرًا، مع المهام اليومية المُكدَّسة الواجب إنهاؤها قبل حلول صباح اليوم التالي.

لا أعلم إلى أيٍّ من الفريقين تنتمي عزيزي القاريء، وهل أنت الآن أنهيت مراحلك الدراسية مثلي أم أنك ما زلت تدرس؟ .. إلا أنني أعلم أن  هذه الفكرة ربما ستُقلقك “أن التعلُّم لا ينتهي بانتهاء مراحلنا التعليمية”. أعتقد أنني استوعبت هذه الحقيقة مؤخرًا، وعلى مضض أيضًا.

فبانتهاء الدراسة يشعر المرء أنه قد أوفى وأتم أغلب المطلوب منه في الحياة، ويخرج حرًّا على نغمات الأغنية “خدنا الأجاااازة…” مُشرقًا في توقعات عالية أنه لن يحتاج للجلوس في مقعد التلميذ مرةً أخرى، معتقدًا أيضًا أنه قد جمع في جعبته ما يكفيه للخوض في رحلة الحياة بثقة تامة.

إلا أن هذا الاعتقاد يهاجمه الشك، عند الخوض في أزمة كبيرة، أو الاختلاف مع أحدهم، أو عند تربيتنا لأطفالنا نتفاجئ أننا لا نملك الإجابات! وربما أشعر باحتياجي لمُعلم أو كتاب أجد فيه إجابات لأسئلة من نوعية مختلفة.

 

أتذكر جُملةً سمعتها من سيدة بلغت من العُمر ما يكفي لاكتساب الخبرات الثمينة قالت: “الواحد هيعيش طول عمره يتعلم”. أخبرتني هذه الجملة وهي تطبق إحدى وصفات الطبخ لأكلة معروفة لكن على طريقة جديدة رأتها على الإنترنت!

أعتقد أن هذه السيدة امتلكت شجاعة مميزة؛ فالفكرة المنتشرة أن التعليم للصغار، لقليلي الخبرة، للمبتدئين فقط!

ولكن .. ماذا لو لم أصدق هذه الفكرة!  فأنا أعتقد أن التعليم المدرسي كافٍ، ولن أبذل المزيد من الجهد في الحياة!

حسنًا فليكن، أتخيل هذه السيدة التي أخبرتني بالجملة أثناء الطبخ، أنها رفضت هذه الفكرة، وقررت أنها لن تتعلم أي شيء جديد، وستظل تطبخ هذه الطبخة بنفس الطرق القديمة. ربما كانت ستفقد متعة تجربة طعم جديد، خبرة جديدة،  طريقة جديدة وربما أسهل وأسرع من القديمة!

وإنْ كنا نطبق هذا المبدأ على شيء بسيط كوصفة لطبخة .. إلا أن الأمر سيصبح أكثر صعوبة إن كان الشخص ليس لديه أي نية أو استعداد للتعلم؛ سيفتقد متعًا جديدةً، تجارب مميزةً، بل ربما يفقد أشخاصًا في حياته! نظرًا لعدم محاولته اكتساب أي شيء جديد أو تغيير أي شيء داخل عقله!

 

حسنًا ماذا أفعل؟!

أن أغير أفكاري تلك التي تخبرني أنني أعلم كل شيء، وأجيد كل شيء، أو أن التعلم للصغار! وأن أستبدل بها أفكارًا جديدةً ونيةً جديدةً، أنْ أنفتح وأتقبل أن التعلم للجميع؛ وأنه ليس بالأمر المحرج أن أكتشف في الثلاثين أو الأربعين بل الخمسين من عمري أنني في احتياج لطرح الأسئلة والتمرُّن لإيجاد الإجابات والحلول.

 

“الواحد يعيش طول عمره يتعلم”

أعتبرها عملةً ذات وجهين؛ وجه يذكرنا بالمدرسة وذكرياتها المتعبة، ووجه آخر حكيم يخبرنا أن للحياة طعمًا جديدًا ومختلفًا، وأن للصداقات والعلاقات عمقًا ثمينًا يحتاج للتدرُّب كيما تجيد التعامل معه، وأن محاولاتي للتغيير والتعلم هي أول خطوة لاكتشاف هذا الكنز في الحياة.

أتمني لك -يا عزيزي- حياةً تتعلم فيها ما تحتاجه، لا بهدف جمع درجات ما، بل لهدف أسمى: أن أتعلم، أفكر، أتغير؛ فأصبح شخصًا أفضل لا يحمل شهادات علمية فقط، بل معها شهادات أخرى غير مرئية، لكنها مطبوعة في شخصيتي، تلمع ويراها كل من يقترب ويخبرني أنني بالفعل قد تطورت وأصبحت شخصًا أفضل لأنني قررت خوض رحلة التعليم دائمًا! 

 

المراجعة اللغوية: عبد المنعم أديب.

المقالة السابقةاللي ميعرفش يقول: معرفش!
المقالة القادمةماذا علمني “فريد الأطرش” عن الحياة

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا