ماذا علمني “فريد الأطرش” عن الحياة

113

بقلم: روزالين جاد

أكتب لكم مقالي الأول بـ”مجلة نون”. الكتابة فعلٌ لطالما استمتعت به وأحببته، ولكن هذه المرة أخبَروني أن سياسة المجلة ترفض الكتابة التشاؤمية، ثم قالوا “موضوع كتاباتنا هذا الشهر عن الحياة”، فضحكت. هل حقًا يمكن أن نكتب عن الحياة دون كتابة تشاؤمية؟

كنت أفكر في موضوع مقالي الأول، حين قاطعني فريد الأطرش بصوته العذب المتسلل إلى أذني من مذياع أتوبيس النقل العام يغني:

“الحياة حلوة بس نفهمها”

هل حقًا تعتقد أن الحياة حلوة يا أستاذ فريد؟ وهل نجحت أو نجح أي شخص في أن “يفهمها”؟

أحيانًا أحسد سائقي الميكروباصات والتكاتك على براعتهم في تلخيص الحياة ببعض العبارات القاطعة؛ وكأنهم قد لخصوا خبرة كل تلك الأعوام فقط ببضعة كلمات. كيف يستطيعون فهمها وتلخيصها بكل هذه البساطة والسهولة؟ وكيف لا نزال نحاول فهم الحياة ولدينا هذا القدر من العلم والفلسفة والبحث والمراجع والتجارب السابقة لتجاربنا الشخصية؟ أمن الممكن أن تكون الحياة حقًا حلوة ولكننا فقط نحتاج إلى أن نفهمها؟ أو على الأقل أن نمنح أنفسنا الفرصة لاستكشافها وخوض تجاربنا الخاصة؟

لست من أصحاب النظرة المثالية للحياة، ولا أنتمي إلى مجتمع اليوتوبيا. أحترم الواقعية وأُفضلها دائمًا في تفسير الأشياء. لذلك، أتعجب دائمًا من حياة الحياة، كيف لا تموت بالرغم من كل شيء؟ مازلت أتذكر انتظار الجميع لسنة 2012 ظنًا منهم أنها سنة انتهاء العالم، كما أتذكر ردود الأفعال المُفزعة تجاه وباء كورونا العالمي ونظرات الترقب المتسائلة باستحياء “هل هذه هي النهاية؟” كيف تتوقف حركات التجارة العالمية ويختبئ البشر بمنازلهم لشهور، ثم تستمر الحياة كأن شيئًا لم يكن؟

دفعني فضولي لمراجعة العدد النهائي لوفيات فيروس كورونا، فوجدت أنه حوالى 15 مليون حالة وفاة بحسب تقارير منظمة الصحة العالمية لسنة 2022. كيف يمكن للحياة أن تستمر بعد وفاة 15 مليون نسمة؟ كيف يحيا العالم بدون 15 مليون إنسان؟ وما الأثر الذي تركه أولئك في حياتهم؟ كم حبيبًا أحبوه أو صديقًا واسوه أو ابن وابنة احتضنوهم وأحبوهم محبة حقيقية؟ كم تلميذًا درَّسوه ومريضًا عالجوه ورب أسرة ساعدوه في شراء احتياجات منزله؟ هل حقًا توفوا أم مازالوا أحياء في قلوب وعقول أحبائهم؟

كم يحزنني احتياجنا كبشر إلى وباءٍ عالمي أو حرب شرسة لإدراك القيمة الحقيقية للحياة، أو إدراك قيمة النور فقط عندما نختبر الظلمة، أو تقدير متعة التذوق، فقط حين تُصبح كل الأشياء بطعم المطاط بلا نكهة أو لذة. اعتدت أن أسخر من مُحبي الشاي، وكيف من الممكن أن يُفسد كوب شاي سيء يومهم بالكامل، حتى قرأت عن الرغبة الأخيرة لأحد المحكوم عليهم بالإعدام، حين طلب كوب شاي ساخن فقط. بهذه البساطة؟ هل يستطيع كوب شاي ساخن أن يُصلح ما أفسده العالم بداخلك؟ أو أن يمنحك معنى ولذة أخيرة لهذه الحياة؟ هل يحتاج الإنسان أن يصل إلى نقطة النهاية ليبلغ هذا الزُهد وألا يطلب شيئًا مما عاش يلاحقه طوال حياته؟ هل هذا كل ما يحتاجه قلب الإنسان ليحيا؟

تؤنسني رائعة وجيه عزيز، حين يغني بصوتٍ باكٍ: 

“إن مقدرتش تضحك.. متدمعش ولا تبكيش
وإن مفضلش معاك غير قلبك

اوعى تخاف، مش هتموت.. هتعيش” 

أتساءل دائمًا إن كان قلبي قادرًا على إحيائي، وإن كنت قادرة على حفظه إذ منه مخارج الحياة. أفهم ليلى مراد عندما تتغنى بأن قلبها دليلها يحكي لها وتصدقه. أصدق قلبي وأثق بحدسي، أؤمن أن حدس النساء خصيصًا لا يكذب أبدًا. ولكن، هل يقودك قلبك إلى مخارج للحياة أم للموت؟ يقول الأطباء النفسيون إنه في بعض الأحيان تعجز عقولنا عن إنقاذنا من دوائر صدماتنا إن اعتدناها؛ إذ يفسر العقل الإيذاء والصدمات كمنطقة تعود وراحة، فيجذبنا إليها مرة أخرى. أما القلب، فكأنما وضعه الله في حالة اتصال سحرية، يُرسل لك دائمًا علامات تنقذك في اللحظات الأخيرة. وكأنما قد وضع الله في الإنسان جهازًا معنويًا لاستقبال إشارات توجيهية حين يضيق به الطريق وتضلُّه الحياة. نعم، أؤمن أن القلب دليل فقط إن حفظناه من التشويش الخارجي لضمان استقبال تلك الإشارات. ولا أقصد بالتشويش مشاغل الحياة اليومية فقط، وكل ما يلهينا عن قيمة الحياة الحقيقية، بل أقصد أيضًا كل ما يُميت القلب بدلًا من أن يُحييه.

أحب كيف يُعبر البشر عما يُحييهم باستخدام لفظ الموت لا الحياة، فلا تجد -مثلًا- أحدًا يقول: “هعيش وأروح المكان ده”، بل “هموت وأروح المكان ده”. وكأنما يشعر الإنسان باقتراب الموت عند حرمانه مما يُحييه. فتجد إنسانًا تُحييه الموسيقى، وتجد آخر تُحييه الرياضة، وآخر يُحييه السفر أو الاستمتاع بالطبيعة أو الرسم أو الكتابة أو أو أو. بهذه الأشياء يحيا الإنسان، بكل ما يجذبه نحو اتصال أعمق بذاته وبصورته الأصلية التى خُلق عليها. لم يُخلق الإنسان بشكلٍ آلي، ولم توجد نسخ متعددة تقوم بوظائف متشابهة، بل خُلق الإنسان بشكل متفرد ومُبدع فائق الدقة مهما تشابهت الجينات الوراثية، حتى التوأم بصمتهم مختلفة. هذه هي القيمة الحقيقية للحياة من وجهة نظري؛ التفرُّد المُبدع. تجربة الإنسان الفردية التي تستحق أن تُحكى بطريقته الخاصة وبتعبيره المتفرد، هذا ما يمنح الحياة غنى حقيقيًّا، ويملؤها ببصمات متنوعة ومؤثرة، حتى تلك البصمات المؤلمة كان من الضروري وجودها في حياتنا، تمامًا كتحديد اللون الأسود للوحات الفنية.

أعتقد أنني ممتنة لما منحتني الحياة من تجارب -سعيدة كانت أو مؤلمة-، وممتنة لله من أجل منحة الحياة نفسها، تلك التجربة الفريدة من نوعها الغنية جدًا في تأثيرها ومراحلها المختلفة. أعتقد أنَّ فريد الأطرش كان مُحقًا، الحياة حقًا حلوة، بس اللي يفهمها.

المراجعة اللغوية/ عبد المنعم أديب

المقالة السابقةرحلة تعليم

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا