إلا حتة

172

 

بقلم: محمد عبد القادر

 

  • هو ابن خالتك يزيد عنك في إيه، علشان يجيب الدرجة النهائية وأنت لأ؟!

الجملة دي -وشبيهاتها- من أشهر الجُمل اللي بتتقال جوَّا معظم بيوتنا. وطبعًا بتبقى نية ماما/بابا ساعتها أنهم يحفزوني ويستفزوا جوَّايا رُوح المنافسة علشان أتطوَّر وأتشطَّر.. لكنْ يا ترى هو ده اللي بيحصل فعلًا؟!

من أكثر ردود الأفعال شيوعًا بعد جملة زي دي، أني أحسّ أني قليل، ولمَّا أحسّ أني قليل، هيتولد جوَّايا معتقد بيقول إن قيمتي كإنسان محصورة في درجاتي ومستواي الدراسي. ولأن شعوري بالقيمة في حد ذاته احتياج نفسي أساسي؛ فأنا -غالبًا في الحالة دي- هبقى مستعد أموّت نفسي علشان أجيب درجات أكبر. علشان أحسّ ساعتها أن لي قيمة، وكمان بابا وماما هيفرحوا، وكلنا نبقى مبسوطين والحمدلله.. 

طب إيه؟.. خلاص كدا؟!..

لأ مش خلاص..

المشكلة أن بعد شوية دا بيتحول لنمط بتبنَّاه في حياتي كلها، دايمًا عاوز أوصل لأحسن حاجة، دايمًا عاوز أحقق أكبر إنجاز، دايمًا مفيش سقف لتوقعاتي من نفسي، ولا حتى لتوقعاتي من اللي حوالي.. دا غير بقى أزمات ثانية بتواجهني؛ زي افتقادي لروح المنافسة الشريفة (غير العدائيَّة)، وعدم تسامحي مع الآخرين.

بس المشكلة الأكبر، أني لمَّا بربط قيمتي كإنسان بإنجازاتي وأدائي وإمكانياتي، دا بيخليني مع الوقت أكون قاسي على نفسي، معنديش استعداد أسمح لنفسي بنسبة الخطأ البشري الطبيعية، واللي وارد أنها تحصل في أي وقت.. معنديش استعداد أغلط أو أتعب. وطبعًا دا بيخليني مش قادر أسمح لنفسي أني أحسّ بمحدوديتي كإنسان. وبتكون النتيجة أني بدخل الفخ برجليّ؛ سباق لاهث ومرهق وقاسي جدًا.. سباق مع نفسي قبل ما يبقى مع الآخر، سباق لا ينتهي، مفيهوش محطة وصول، ولا حتى محطة استراحة!.. الفخ ده اسمه “الكَمَاليَّة”!

ولأني -شئت أم أبيت- إنسان محدود وغير كامل؛ فطبيعي أن النتيجة مش دايمًا هتبقى زي ما أنا عايز.. بل للأسف، عُمرها أصلًا ما هتبقى زي ما أنا عايز.. دايمًا هبقى باصص على الحتة الناقصة. وحتى لو قدرت أحيانًا أعمل إنجاز وأكون راضي عنه، برضه مش هلحق أفرح به، وأرتاح كدا وأحسّ بالشبع؛ لأني هبقى ساعتها باصص على الإنجاز اللي بعده، اللي لسه محتاج أبدأ رحلة جديدة من العناء علشان أوصل له .. ياه! .. حاسس أن نَفَسي هيتقطع!

طيب يعني معنى كدا أن قيمتي مش مرتبطة بإنجازاتي؟! .. أومال هحسّ بقيمتي ازاي بدون ما أحقق ذاتي، وأعمل إنجازات تدّي لحياتي معنى؟!.. هي البيضة الأول ولا الفرخة؟!

طبعًا التنشئة بتفرق بشكل كبير في إيماني واعتقادي بأن قيمتي جاية من جوَّايا مش من برَّايا .. يعني لو كان بيتقال لي من وأنا صغير: إني جميل ومحبوب ومقبول، بغضّ النظر عن شكلي وشطارتي وأدائي وأخطائي؛ هكبر وأنا مصدق ده عن نفسي.. أما لو حصل العكس، فطبيعي أنه يخليني حاسس دايمًا أني لازم أعمل مجهود خُرافي (ومفيهوش غلطة) علشان أحسّ أني يا دُوب كويس!

والمشكلة بقى أن ارتباط قيمتي بمدى جودة وكفاءة إنجازاتي بيخليني دايمًا حاسس بالتهديد من فقدان إنجازاتي أو التراجع في مستوى جودتها. لأني من جوَّايا ببقى حاسس أني من غير الإنجازات (اللي مفيهاش غلطة) دي، هوا.. مفيش!!

طيب واللي عاش حياته بيربط -من غير وعي- قيمته بعدد أخطائه أو نجاحاته، خلاص كدا طريقه مسدود يا ولدي؟! .. طبعا لأ.
الفكرة كلها أني بحتاج أتبنَّاني من أول وجديد، أعمل أنا مع نفسي العلاقة اللي بابا وماما ماكانوش واعيين كفاية علشان يعملوها معايا.

يعني إيه الكلام ده؟!

يعني أمشي سكَّة -ممكن أحتاج فيها لمساعدة متخصصة- علشان أتعلم أقبلني كلي كدا على بعضي، بالحاجات اللي أنا شاطر فيها والحاجات اللي نُصّ نُصّ، والحاجات اللي مش قد كدا .. لأ وكمان أفهم أن مش كل الحاجات هتبقى قابلة للتطوير بالصورة والمستوى اللي في خيالي.. 

محتاج أدّي لنفسي الحق أني أغلط، وأني أرتاح لمّا أتعب، وأني أعذرني لمّا أضعف .. محتاج أعرف أن فيه فرق بين القبول والموافقة.

محتاج أفهم إن فيه فرق بين “المثاليَّة” و”الكماليَّة”!.. المثالية هي مسيرة بمشي فيها طول الوقت علشان أتعلم وأعرف نفسي أكثر، وأسعى للوصول إلى نسخة مني أكثر حقيقية. أما الكمالية فهي سراب، طموح غير واقعي وغير إنساني أصلًا..

محتاج كمان أفرح بإنجازاتي مهما كانت بسيطة. وبدل ما كنت بركّز مع اللي معرفتش أحققه، لأ أركز على اللي حققته، وأتعلم أتسامح مع نفسي وأكون أكثر رأفة معايا. وكمان أتعلم أمارس الرأفة والتسامح في علاقاتي مع الآخرين..

محتاج كمان أتصالح مع الحتة الناقصة اللي عندي.. محتاج أحبها، لأنها جزء مني، وجزء من إنسانيتي. ما هو أنا إنسان مش كامل على فكرة .. مفاجأة صح؟!

تعالوا كدا نتأمل مع بعض الكلمات دي، وهي من تأليف شاعر العامية الجميل/ علي سلامة:

كل ما أوزن ألاقي لسه ناقص لي حتة

أحطّ حتة، تقلّ حتة
وأجيب قميص، تضيع جاكتة

وأعيش لي ساعة، يفوتني ستة!
كل ما أوزن ألاقي ناقص

أقول بناقص لو هي حتة
أتاري لسه .. ولسه تاخد سنين وحتة!

المراجعة اللغوية: عبد المنعم أديب.

 

المقالة السابقةاحضن ناقدك الداخلي
المقالة القادمةدروس خصوصية 

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا