تأملات في كتابيّ “التعافي وحب الله” و”الروحانية والتعافي”

3099

بدأت حياتي من جديد في سبتمبر عام 2019، حين قررت أن أنقل مكان إقامتي من غزة إلى القاهرة، تركت المدينة الصغيرة في البلد المحتل الذي يعاني ويلات الحرب والانقسام والحصار وحزمت أمتعتي وأحلامي ومعاناتي واتجهت إلى العاصمة القاهرة، التي كان التأقلم فيها تحديًا يوميًا على الفتاة التي كان يُخفيها عبور الشارع وحدها.

في نهاية يناير 2020، كنت توصلت ليقينٍ أن خيار الإقامة في مصر هو أفضل خيارٍ اتخذته لنفسي، كانت حياتي ممتلئة بالأنشطة والورش ولقاءات الأصدقاء، أخوض تجربة جديدة وأخطط لتجارب أخرى، إلى أن وقعت جائحة فيروس كورونا المستجد وعصفت بحياتي وحياة الملايين، وأصبحت كل المشاريع مؤجلة وشعرت أني أعود عشرات الخطوات للوراء، فالحجر المنزلي في القاهرة يشبه إلى حد كبير العزلة الاختيارية في غزة.

انتهى عام 2020 بقدرٍ كبير من الإحباط والخذلان والقلق والخوف والوهن النفسي، لم أشترِ أجندة عام 2021، فلا فائدة من التخطيط بعد أن أضعنا شهورًا حبيسي المنازل خوفًا من مرضٍ ما زال يتربص بنا، توقفت في منتصف طريق التعافي الذي بدأته في نوفمبر 2019، مشروع دراسة نفسية كنت أطمح إليها تأجل، وأفكار ذهبت من حيز التنفيذ إلى غياهب التأجيل، لكن الله كان يُرتب لي ترتيبًا آخر، تمثل في إعلانٍ عن ورشة المهارات الحياتية المعروفة باسم واحة، شاهدت مصادفة و2020 تُجهز نفسها للرحيل.

كنت من المحظوظين الذين قُبلوا في واحة، وهي ورشة مدتها 3 أشهرٍ تابعة لمؤسسة الحياة التي يُشرف عليها استشاري الطب النفسي د. أوسم وصفي، تعلمت خلال رحلتي في واحة الكثير عن المشاعر والأفكار، الاحتياجات ونمو الشخصية، العلاقات، الروحانية والتعافي والعلاقة بينهما والفرق ما بين الروحانية والتدين.

الفرق ما بين الروحانية والتدين

يواجه الطبيب النفسي د. أوسم وصفي انتقاداتٍ عدة، لأنه يعتبر الروحانية ركيزة من ركائز التعافي النفسي، يظهر ذلك جليًا في محاضراته وكتبه وجلساته النفسية، ويعتبر البعض أنه يوجه المريض إلى نوع من العلاج النفسي الديني، مخالفًا بذلك علم النفس المنظم الذي ظهر في نهايات القرن التاسع عشر، الذي يفصل العلم عن الدين، والواقع أنه هناك اختلاف كبير ما بين الروحانية والتدين من وجهة نظر وصفي الذي قرأت له عدة كتب إلى جانب الدراسة في مدرسته واحة.

يقول وصفي في كتابه “مهارات الحياة”: “الإنسان من جانبه يبحث دائمًا عن الإله، والله من جانبه يبحث عن الإنسان ويُعلن له عن نفسه بطرق متعددة، وهذا هو جوهر الروحانية”، وفي كتابه “الروحانية والتعافي”، يوضح: “التوجه الروحاني ليس بالضرورة أي ديانة أو ممارسات دينية، وإنما المقصود به، توجه يرى البعد المطلق للحياة ويتوقع تدخلًا في الحياة من قوة عظمى خارجة عن المادي والملموس”.

ويتابع في جزء آخر من الكتاب السابق: “الروحانية: خبرة الخروج من أنفسنا للاتصال بشيء ما أكبر من أنفسنا، وفي نفس الوقت نكون واعين بأنفسنا أننا جزء هام من ذلك الكل، أي أن نكون بصورة عجيبة منفصلين ومتصلين بكيان أكبر منا بما لا يقاس”. ويتابع: “الروحانية حالة بحث دائم عن المعنى والقيمة في كل شيء، لأننا عندئذ نشعر أن حياتنا لها معنى ودلالة أكبر من وجودنا المادي اليومي المعتاد”.

تعليقًا على ما سبق أرى أن الروحانية مفهوم يشمل كل الممارسات التي تُركز على معنى وجود الإنسان وقيمته، بشكلٍ يحقق له السلام الداخلي ويساعد على عملية النضوج النفسي والتعافي، سواء كانت هذه الممارسة دينية كالصلاة في الديانات السماوية وغير السماوية أو لا دينية مثل الممارسات التأملية في الطبيعة.

اقرأ أيضًا: 8 طقوس من الروحانيات تشحن روحك فيما تبقى من رمضان

كتاب التعافي وحب الله: التأمل كممارسة روحانية

خلال الدراسة في ورشة واحة، كان كتاب “التعافي وحب الله: تأملات لمن يسيرون مسيرة التغيير”، رفيقي اليومي لمدة 3 أشهرٍ، بغلافه الأخضر الذي يخلق في النفس نوعًا من السكينة، خصوصًا أن الغلاف مزين بصورة لنهرٍ واقع ما بين سهلٍ أخضر وجبلٍ أبيض، يذكرني بجمال الطبيعة من حولي التي تستحق مني التوقف عن الجري في الحياة قليلًا، لأتأملها وأسمح لجمالها أن يسكنني.

الكتاب تأليف: ديل وجوانيتا رايان، ترجمة د. أوسم وصفي، مراجعة: أحمد حنفي، مقسم إلى 17 عنوانًا وأسفل كل عنوان مجموعة من التأملات، كل تأمل بعنوان، يتبعه فقرة تشرحه ثم دعاء، وكنت كطالبة في واحة مطالبة أن أتأمل يوميًا، أي أن أقرأ الفقرة ثم الدعاء، ثم أكتب ما يثيره التأمل والدعاء في نفسي على الورق.

كانت هذه المرة الأولى التي أمارس فيها التأمل، وقد نصحنا المحاضر أن نجلس في مكانٍ هادئ ولا مانع من بعض الموسيقى الهادئة في الخلفية، وأن ننحي جانبًا كل ما يشغل تفكيرنا ونستحضر أجسادنا وأرواحنا في دقائق التأمل المعدودة، ثم نفرغ ما أثاره التأمل في أنفسنا دون تفكير أو حرص على تنميق الكلمات.

لم يكن التأمل سهلًا كممارسة أجربها للمرة الأولى، وكشخص ملول كان الأمر بالنسبة لي صعبًا حتى وإن كان مجرد دقائق، ثم كيف يمكن أن أنحي الأفكار التي تتصارع في رأسي كي أحضر جسدًا وروحًا في المكان ومع الكلمات، مارست الأمر في البداية بثقل، باعتبار أن هذا واجب لا يُمكن الفرار منه، ومع الأيام أصبحت عادة يومية تساعدني على التواصل مع نفسي وروحي وتنظيم أفكاري.

واكتشفت أن ربط التأمل بالكتابة له واجهته، وليس من باب تكدير الطلاب كما ظننت في البداية، فالكتابة الحرة نوع من أنواع العلاج النفسي، خصوصًا في أوقاتٍ قد لا نجد شخصًا نبوح له بما يؤلمنا/ يقلقنا/ يخيفنا، الورق في هذه الحالة أشبه بالشخص الذي يستقبل ويقبل منا كل ما نلقيه إليه، نوع من تفريغ المشاعر والأفكار والأحاسيس.

كتاب كتاب التعافي وحب الله
غلاف كتاب كتاب “التعافي وحب الله”

كتاب “الروحانية والتعافي”: دور الروحانية الحقيقية في الشفاء والنضج

كتاب الروحانية والتعافي من تأليف د. أوسم وصفي، يقع في 3 أجزاء، الجزء الأول عن علاقة الروحانية بالتعافي النفسي، الجزء الثاني عن الممارسات الروحانية ومتى تكون صديقة للتعافي ومتى لا تكون كذلك، الجزء الثالث عن حركة المدمنين المجهولين، وهي حركة تعافي وتجديد روحي. من الصعب تلخيص مثل هذا الكتاب الهام في بضع سطور، فكل عنوان ورد في الكتاب يصلح نواة لمقالٍ أو أحيانًا عدة مقالات، لكن ما يلي نظرة عامة على أهم موضوعاته.

أهم ما يركز عليه الجزء الأول هو العلاقة ما بين الروحانية والتعافي، وكيف أن الروحانية تساعد الإنسان على الشعور بأنه جزء من كيان أكبر محب ومعط، ما يمنحه الشجاعة على معرفة نفسه بشكلٍ أكبر وقبول أخطائها كبداية لتغييرها، فقوة القبول غير المشروط تقاوم مشاعر الخوف والخزي الذي تترسب في دواخلنا بسبب أخطائنا.

ويضرب الكتاب مثالًا على المجتمعات الروحية الصديقة للتعافي، بمجموعات الدعم النفسي والمجموعات العلاجية، وهي مجتمعات مصغرة يجد فيها الإنسان قبولًا غير مشروط وهو يعترف بمشكلاته وأخطائه وتصوراته عن نفسه السلبية منها والإيجابية، يُحترم فيها العطاء والأخذ معًا، ويجد بداخلها الصدق والشفافية والثقة بالآخر.

أما الجزء الثاني فيوضح أن الاضطرابات النفسية والسلوكية تجعلنا منحصرين في أفكار ومشاعر وسلوكيات قهرية، لا نستطيع بسببها أن نرى العالم من حولنا بما فيه من جمال وحياة، كما تجعلنا في حالة من التطرف في التجاوب مع قلق الوجود الإنساني، الذي يصل في بعض الأحيان إلى الهوس بأمور معينة وإدمان أمور أخرى “علاقات، جنس، مخدرات، عمل، طعام”، أو يصل إلى حالة من اليأس والقنوط والاستسلام للرغبة في ترك الحياة.

ويضرب الكتاب مثالًا عن الممارسات الروحانية الصديقة للتعافي، بأنها الممارسات التي تجعلنا نقف عند نقطة الاتزان، فلا نعاني من هوس أو إدمان أو تخلي عن الحياة، مثل: تمارين اليقظة والوعي “Mindfulness”، التي تجعلنا نخرج من انحصارنا في أنفسنا ونمارس اليقظة للطبيعة والحياة والناس، ولأجسادنا وأفكارنا ومشاعرنا.

اقرأ أيضًا: مثلي الأعلى متعافية من الإدمان

ويركز الجزء الثالث من كتاب الروحانية والتعافي على برنامج “المدمنون المجهولون” وبرنامج “الخطوات الاثنا العشر”، التي تركز على التعافي من الإدمانات المختلفة، وهي برامج روحية تعتبر الإدمان مرضًا مزمنًا متفاقمًا لا يمكن الشفاء التام منه، وإنما يمكن التعافي منه، بمعنى تحجيمه ومنعه من تدمير حياة المريض.

يُعرف د. أوسم وصفي برنامج الخطوات الاثنا عشر في كتابه: “برنامج روحي يعتمد على اثنتي عشرة خطوة، يقوم المتعافي باتخاذها واتباعها في كل شؤون حياته بمساعدة الله (كما يراه أو يفهمه)، وبمساندة مجتمع التعافي المكون من مدنين آخرين يتعافون، دون تدخل أي من مؤسسات الطب والعلاج النفسي أو المؤسسات الدينية بكل أنواعها”.

كتاب كتاب الروحانية والتعافي
غلاف كتاب “كتاب الروحانية والتعافي”

التعافي رحلة مستمرة

انتهت رحلتي في ورشة واحة في 30 مارس الماضي، لكن ما تعلمته وأعيشه الآن أن التعافي والنضح النفسي رحلة مستمرة، تتطلب مني أن أسخر العلم والمعرفة والروحانية لمساعدة نفسي وقبولها، وتغيير ما يمكن أن أغيره، وأن أقبل ما لا أستطيع تغييره، وأن أفرق ما بين الاثنين، وهو جوهر السكينة والسلام النفسي.

المقالة السابقةخلي بالك من زيزي: كيف يمكن للفن أن يغير العالم؟
المقالة القادمةلعبة نيوتن: “هنا” نتاج طبيعي من أم متسلطة

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا