لفتت قصة “زيزي” نظر الكثير من المشاهدين منذ البدايات المبكرة لعرض مسلسل “خلي بالك من زيزي”، مع انطلاق صافرة بدء الماراثون الدرامي الرمضاني هذا العام. هذه المرأة المتوترة العصابية التي تصرخ في أغلب الأحيان والتي لا تجد أحدًا ليفهمها، ومع تطور الأحداث ارتبط الجمهور بشخوص المسلسل، “مراد” المحامي اللامع الذي يساعد “زيزي” في حل مشاكلها، “تيتو” الطفلة التي تعاني من اضطراب متلازمة تشتت الانتباه وفرط الحركة والتي تعتبر انعكاسًا لشخصية “زيزي” نفسها، “هشام” زوجها السابق والذي يعاني هو الآخر من مشكلاته الخاصة، أمها وأبوها وحتى ابنة خالتها، كلها كانت شخصيات حقيقية جدًا كتبتها منى الشيمي مع ورشة الكتابة بعناية تحت إشراف الكاتبة والسينارست مريم نعوم وأخرجها كريم الشناوي.
المسلسل جديد جدًا رغم أنك لو نظرت له من بعيد سوف ترى قصة امرأة تعاني من مشكلات في الإنجاب، يطلقها زوجها وتحاول أن تبدأ حياة جديدة، بمساعدة المحامي الذي ساعدها في الحصول على الطلاق، ولكن هذه نظرة قاصرة جدًا وسطحية للمشكلات التي يستعرضها المسلسل بطزاجة شديدة في الأفكار وفي الطرح، التعرض لدواخل الشخصيات النفسية وخلق شخصيات ذات أبعاد حقيقية ومتعددة تختلف تمامًا عن الشخصيات الدرامية المعتادة ذات البعد الواحد والتي لا تقدم أي ترسيخ منطقي لأفعالها على الشاشة.
نجح المسلسل في المحافظة على الرتم الدرامي الجيد والمتوازن للأحداث، ومع الأداء العالي جدًا من كل أبطال العمل تقريبًا، استطاع أن يجذب المشاهد للمنطقة التي يمتزج فيها الاستمتاع بالفن الجيد، مع تعلم أشياء جديدة عن العالم من حولنا، المسلسل مليء بالشخصيات الغنية، وكل تصرف يخرج منهم على الشاشة يمنح زاوية أوسع للمتلقي ليرى منها العالم، وتدور النقاشات على السوشيال ميديا عن قضايا حقيقية تهم الإنسان، الإنسان الحقيقي الذي عندما يتغير حقًا يمكن أن يغير العالم من حوله.
كيف تدمر العلاقات المسيئة الزواج؟
استعرض المسلسل علاقات مسيئة متعددة ضمن أحداثه، علاقة “زيزي” و”هشام” على سبيل المثال، كانت “زيزي” تحبس “هشام” في علاقة قائمة على الفوضى والصراخ والاستعجال وعدم تلبية احتياجات الطرف الآخر، بل عدم الاهتمام برؤيتها أصلاً، علاقة واضحة جدًا للطرف الذي لا يعرف عيوبه ولا يهتم بحل مشاكله، فيضغط الطرف الآخر ويدفعه حتى نقطة الانفجار، ثم يتخلص “هشام” من “زيزي” الذي اتهمها بتدمير حياته وأسقط عليها كل أسباب فشل العلاقة، ومع تطور الأحداث نرى “هشام” يدخل في علاقة أخرى يعيش فيها بنفس نمط الشريك الصامت، الذي يأخذ دومًا دور الضحية ليلعبه دون أن يطلب منه أحد ذلك، تمنعه دماثته وهدوؤه وربما ضعف شخصيته من الاعتراض، فنراه يدخل مع زميلته في علاقة وهو لا زال متزوجًا دون أن يشعر زوجته أن هناك شيئًا ما خاطئًا، ثم عندما يتم الطلاق نراه مستسلمًا لأوامر وخطط وكل قرارات خطيبته الجديدة.
اقرأ أيضًا: اعرف من أنت في مثلث الضحية والجلاد والمنقذ
نرى أيضًا “ناريمان” و”فؤاد”، زوج وزوجة عاشا معًا أكثر من ثلاثين عامًا، لا نرى أزمات منفجرة بينهما، لا نرى شجارات، لا نسمع اعتراضات أي منهما بشكل واضح على تصرفات أو قناعات الآخر، ولكن بالتدريج تتفهم أنهما ثنائي قرر أن يتجاهل مشكلاته ويترك القافلة لتسير بسلام زائف يتقوض عند أول خبطة موجعة، علاقة مدمرة ومنتهية ولكنها مستمرة بقوة الدفع، دفع الحياة من حولها ولكنها لا تمتلك أي قوة خاصة محركة.
كلها نماذج لعلاقات مسيئة تدمر العلاقة الزوجية، ولكنها مختلفة عن النمط الشائع في المجتمع عن علاقات الزواج المسيئة، هنا لا نرى زوجًا عنيفًا ولا زوجة خائنة، ولا نرى ضربًا ولا إهانات ولا مشكلة إدمان لدى أحد الأطراف، ولا أي نمط اعتاده المجتمع لفشل الزواج، وهنا تكمن عظمة المسلسل، أنه يرينا جانبًا آخر للعلاقات المسيئة لم نكن ندري أنه سبب حقيقي ورئيسي في فشل الزيجات وتدمير البيوت بل وتدمير نفسيات أطراف العلاقة.
السلبية والخرس الزوجي والتباعد العاطفي والأنانية والسخرية الدائمة، كلها صفات سيئة إذا توافرت في شريك العلاقة، خصوصًا الشريك غير المتبصر بعيوبه، وعاجلاً أو آجلاً هذا الشريك يكون سببًا أساسيًا في تخريب العلاقة، خصوصًا إذا عاونه الطرف الآخر على ذلك بموافقته على أن يكون طرفًا في علاقة مسيئة من الأساس.
اقرأ أيضًا: ليه الست بترضى بالعلاقات المسيئة؟
كيف تختلف أنماط الشخصية وتؤثر على مسار الحياة؟
يقدم المسلسل –للمرة الأولى تقريبًا في الدراما المصرية– نماذج حقيقية لأشخاص يعانون من اضطرابات شخصية معروفة طبيًا، وكيف يتعامل الأهل مع شخصيات الأبناء المختلفين عن النمط المعتاد، الطفل عندما يخالف توقعات أهله ويكتشفون أنهم لم ينجبوا “الطفل الحلم” فيحملوه مسؤولية أنه خالف توقعاتهم عن الطفل المثالي، حتى لو لم يكونوا أسرة مثالية أو أبًا وأمًا صالحين من الأساس.
“زيزي” لم تكن طفلة مثالية، لا تقترب حتى من الطفلة العادية، ما الذي حدث؟ حملها أهلها هذه المسؤولية حتى كبرت لتصبح شخصًا مسؤولاً دائمًا عن تخريب علاقاته لأنه غير واعٍ بمشكلاته، وعندما بدأت في الوعي بنفسها رفض الأهل أن يصدقوا أنهم جزء من خرابها الداخلي، وتركوها للمرة الثانية تواجه مشكلاتها وحدها، بل بالكثير من التعنيف والصراخ والذي قامت به صفاء الطوخي باقتدار، هذه أم حقيقية حبيسة علاقة مسيئة، تُحمِّل ابنتها مسؤولية كل ما حدث لها ومسؤولية خراب حياة ابنتها أيضًا.
نرى على الجانب الآخر “تيتو”، طفلة تعاني من نفس الاضطراب الذي تعاني منه “زيزي”، ولكنها ابنة لأب وأم من الجيل الجديد الذي يحاول أن يفهم ويغير ويعترف بمسؤوليته، أب وأم غير مثاليين ولكنهما يحملان البذرة الأهم في نجاح العلاقات أيًا كان شكلها، بذرة الوعي ومحاولات الفهم والتحسين المستمرة.
نمط شخصية “تيتو” و”زيزي” ليس علة مؤقتة، ولا هو علة أصلاً، هو نمط مختلف من أنماط الشخصية، إذا وعى به الإنسان استطاع أن يوجه طاقاته نحو المنافذ الصحية التي تمكنه من عيش حياة متوازنة، وهذه مسؤولية الآباء، حتى لا يفوت الوقت وتضيع حياة كاملة على إنسان لم يعرف أحد كيف يوجه طاقاته وكيف يتعامل مع نمط شخصيته، فتكون النتيجة إنسانة تخطت الثلاثين ليس لديها كاريير ولا تحمل علمًا من أي نوع، ولا تستطيع كسب قوت يومها ولا تستطيع إقامة علاقة عاطفية سليمة وصحية.
كيف يؤثر الوعي في تحسين حياة الأفراد؟
الجميل في مسلسل “خلي بالك من زيزي” أنه لا يقدم مشاكل فقط، ولا يقدم أيضًا حلولاً إعجازية، هو فقط يفتح للمشاهد نوافذ جديدة للفهم والإدراك، الفهم والإدراك هو ما يمكن الفرد من الوعي، والوعي هو أول وأهم خطوة في التحسين، بدون الوعي لن يمتلك الإنسان وجهة نظر أصلاً، لن يستطيع أن يعرف موطن الخلل، وبالتالي لن يستطيع علاجه، فبدون تعريف المشكلة لا تستطيع إيجاد الحل، وتظل تدور في حلقة مفرغة من الألم والإيذاء دون نهاية.
لم يتغير أي شيء في المسلسل من تلقاء نفسه، كل فرد قدمه لنا المسلسل يعاني من خلل ما، خاض مشوارًا صعبًا ومؤلمًا لاكتشاف ذاته وللحصول على الوعي الكافي لتغيير واقعه، ألم التغيير وإحساس الفأر في المصيدة صعب فعلاً، وقدمه لنا المسلسل دون أي تزييف، ودون أن يوهمنا أن المشوار سهل وقريب، لحظات بكاء “هدى” أم تيتو لشعورها أنها تائهة، مشاهد مواجهتها مع زوجها وتفكيرهما في حل للمأزق الذي يعيشانه مع ابنتهما مؤلمة جدًا ولكنها حقيقية ومهمة، وبقدر ما فيها من ألم فهي تحمل أملاً أن التغيير ممكن ولكنه يتطلب وعيًا وإرادة.
“زيزي” لم تحصل على حب “مراد” بطريقة قدرية إعجازية خالية من المنطق، ولكنها بذلت جهدًا كبيرًا في التغيير والترويض والفهم، خاضت رحلة كاملة داخل نفسها استطاعت فيها أن تفهم كيف تدور الأمور بداخلها وكيف يمكنها أن تدير الأمور خارجها.
المسلسل فتح للكثير من المشاهدين طاقات نور عرفتهم على ذواتهم وعلى أحبائهم، منحتهم طريقًا وشجعتهم أن يخوضوه، منحتهم أملاً في أن هناك زاوية أخرى للنظر للأمور ربما تكون أوضح وأكثر نورًا، وهكذا بالضبط يستطيع الفن أن يغير العالم.
اقرأ أيضًا: عائلة سمسم: أسرة تتحدى القلق عن طريق العلاج بالفن