لعبة نيوتن: “هنا” نتاج طبيعي من أم متسلطة

834

ها قد أوشك شهر رمضان على الانتهاء، فأنا أكتب تلك السطور بينما مر ما يزيد عن عشرين يومًا من الشهر الفضيل، ومما يعني مرور أكثر من عشرين حلقة من الأعمال الدرامية المذاعة في ذلك الشهر أيضًا، بالطبع فإن بعض المسلسلات خيبت آمال الجماهير والبعض الآخر لم يلق استحسانًا في البداية، ثم تطورت علاقة الجمهور به، ولكن يظل مسلسل “لعبة نيوتن” بطولة منى زكي ومحمد فراج ومحمد ممدوح وسيد رجب من أكثر الأعمال التي حازت الانتباه وحققت نسب مشاهدة عالية من أيامها الأولى، لأسباب كثيرة من بينها الأبطال الذين هم من أكثر الموهوبين الآن في الساحة الفنية، ولأن الأحداث بها الكثير والكثير من التفاصيل الإنسانية: الأنثى المترددة، الزوج المؤمن بقدارته والمهمل لإمكانيات زوجته، الرجل المسيطر، الرجل المتدين، الشخص المنجرف للثقافة البعيدة عن أصوله، الكثير والكثير، ولكن ما استوقفني بشكل شخصي “هنا” التي تقوم بدورها الفنانة منى زكي.

“هنا”: التردد الدائم ومحاولة إثبات الذات

فتاة تجري بطريقة سريعة منهكة، تقع على الأرض كل بضع خطوات، تتصل بشخص يدعى “حازم”، يطلب منها أن يطمئن على أحوالها وأحوال “إبراهيم”، لتبكي وتغلق الهاتف ثم تذهب بيت “مؤنس”. لتكتشف بعد ذلك أن “حازم” هو زوجها وأن “إبراهيم” هو رضيعها الذي وضعته للتو، وربما تقف حائرًا أمام علاقتها بـ”مؤنس” لأنك لا تعرف تسمية واضحة لها.

تتضح الأحداث فتعرف أن “هنا” ذهبت لأمريكا لكي تلد ابنها هناك بطريقة غير شرعية، وبعد ولادتها تحدث سلسلة من الأحداث التي تؤكد مدى اهتزاز شخصيتها وضعفها واعتماديتها على غيرها، شخصية قد تلمح بها بعض القوة في موقف معين ثم في التصرف التالي مباشرة تجدها مترددة لا تجيد التصرف، تتخذ في كثير من الأحيان أبعد الطرق عن التفكير المنطقي. التخبط والخوف وعدم وضوح الرؤية ومحاولة إثبات قدرتها على النجاح دائمًا بمفردها، أشياء تسعى لها دائمًا فتحدث الكثير من الحوادث. قد يفسر تلك التصرفات بعض المشاهد التي تصف علاقة “هنا” بأمها، وتوضح في كثير من الشؤون تحكم الأم بابنتها وسطوتها عليها.

أم متسلطة تخلق طفلة مشوهة

فأم “هنا” من الأمهات اللائي يرين أن الأبناء ملك ممتد للآباء، يمكنهم فعل ما يريدون به. كانت الأم متسلطة تفعل كل شيء بنفسها، لا تمنح ابنتها حق التجربة والفشل أو حتى النجاح، فهي تقرر كل شيء وتفعل كل شيء وتفكر في كل شيء وتنفذ كل شيء، بينما يلعب الأبناء -“هنا” في تلك الحالة- دور كومبارس يستقبل كل تلك الأحداث ويتعامل معها على أنه لا بد من وجود شخص ما يسير الحياة ويقوم بشؤونها.
لذا فلا عجب أن تختار “هنا” زوجًا بشخصية “حازم”، الشخصية الذكورية المسيطرة الذي يرى في نقسه القائد الأوحد في علاقتهما، ويرى في نفسه الأحقية بقيادة عملهما المشترك، الذي هو أساسًا فكرتها، ومن بعده تختار “مؤنس” الشخص المتلاعب الذي يعرف من أين تؤكل الكتف، والذي يقدم لها دائمًا العون والمساعدة.

حماية الأبناء أم السيطرة عليهم؟

واحدة من أهم أهداف التربية هي تنشئة الأطفال وتهيئتهم للتعامل مع الحياة بمفردهم، وهنا يجب الانتباه أن خير الأمور أوسطها، فمحاولة فرض واجبات على الطفل أكثر مما يحتمل، يتسبب في شعوره بالخيبة وعدم القدرة، ويزعزع ثقته بنفسه، وأيضًا محاولة منع الطفل بالقيام بأي شيء مهما بدا بسيطًا ومناسبًا لقدراته النفسية والعقلية والعضلية، يخلق طفلاً اعتماديًا مزعزع الثقة في نفسه وقدراته، يحاول بشتى الطرق إثبات نفسه للناس، فهو يجعل من نظرة الناس له مقياسًا حقيقيًا لتقييم نفسه.

اقرأ أيضًا: حماية الأطفال: بين الرقابة واختراق الخصوصية

السيطرة والنقد: أسلحة بعض الأمهات في التربية

الأسباب والدوافع النفسية لسيطرة الأمهات

“مفيش أم مبتحبش ولادها”، واحدة من أعظم الكليشيهات في عالم الأمومة، وبالرغم من ذلك، فنحن لا نناقش هنا هل تحب الأم المسيطرة أبناءها أم لا؟ لكن نناقش الأسباب التي تجعل بعضهن يسيطرن دون التركيز على الحب أو الكره، نناقش الأسباب والدوافع النفسية الخفية.

1. تعتقد الكثيرات أنهن يجب عليهن حماية الأبناء من أي أذى أو فشل، فتعمل على حمايته بصورة تمنعه من ممارسة حياته الطبيعية، يحدث ذلك منذ سنين العمر الأولى، فالأم التي تحمي ابنها من العثرات البسيطة العادية أثناء تعلمه المشي، هي نفس الأم التي تمنع ابنتها من الصداقة. اختصارًا هي الأم التي ترى أنه من واجبتها حماية الابن أو الابنة من أي حدث خارجي.

2. بعض الأمهات ترى أن تلك الطريقة هي الطريقة الوحيدة للتربية، إعمالاً بمبدأ هذا ما وجدنا عليه آباءنا، فالأم تنفذ ما عاشته باعتقاد ثابت بأنه يجب على الأمهات أن يتصرفن بتلك الطريقة.

3. “الأبناء ممتلكات خاصة”، هكذا تؤمن بعض النساء بأنهن السبب في وجود الأبناء وتربيتهم وحمايتهم، فيعطون لأنفسهن الحق في تصريف حيوات الأبناء كما يردن.

4. تعمل الأمهات عادة على تشجيع الأبناء ليصلوا إلى أبعد نقطة نجاح ممكنة، ومن بين كل سبل التحفيز تجد بعض الأمهات أن النقد والتقليل مما أنجزه الأبناء يدفعهم للانطلاق بصورة أكبر.

5. بعض الأعين تنجذب تلقائيًا للأمور الناقصة، فهي لا تستطيع أن ترى الجمال والنجاح، لكنها تقدر بسهولة أن تكتشف الجزء الناقص، فهي تفعل الأمر نفسه مع أبنائها.

أضرار التربية بالحماية الزائدة والكلام السلبي

1. تمنع الحماية الزائدة من وصول بعض التجارب الحياتية اللازمة للنمو النفسي للطفل، فطفل لم يختبر الفشل ومحاولة الإساءة له ومحاولة طفل آخر أخذ ألعابه دون استئذان لن يفهم الكثير من المعاني اللازمة لتدريبه على الحياة بصورة صحيحة.

2. الإنسان الذي يعتبر كائنًا اجتماعيًا يجد في دائرته المقربة ذلك الجفاء من تصرفاته، فيسعى لمحاولة كسب رضا الناس بأي وسيلة.

3. خلق شخص اعتمادي، فهناك دائمًا أم تقوم بكل شيء، لذا فإنه في كل علاقة يبحث الشخص على وجود من يعتمد عليه سواء زميل عمل أو زوج أو صديق أو أبناء.

4. يساعد اللوم المستمر بجعل الطفل ضاجرًا بصورة مستمرة، فهو لا يشعر بأي ميزة أو هبة في حياته، فقد اعتاد على رؤية التقصير.

5. الطفل لأم لوامة يفقد القدرة على الإنجاز، ويجد صعوبة بالغة في اتخاذ القرار بمفرده، ويختفي تقديره لنفسه ولقدراته وإمكانياته.

6. احتمالية التحكم والأذى اللفظي لدى الأشخاص الذين امتلكوا أمهات بنفس الصفات، أكثر من الأشخاص الذين لم يمتلكوا أمهات لهن نفس الصفات.

تصرفات “هنا” رد فعل طبيعي لتربية أمها

شخصية “هنا” هي إحدى الشخصيات التي حازت على نصيب الأسد من نقد المتابعين على السوشيال ميديا، وبالرغم من التردد في اتخاذ القرارات والبعد عن الحسابات العقلانية وعدم وضوح سمات مميزة لشخصيتها، فإنها نتيجة طبيعية لذلك النوع وتلك الطريقة في التنشئة.

ففي مشهد يعكس ذلك الرأي نرى “هنا” التي عادت للتو من أمريكا بعد سلسلة من الأحداث المروعة –لعل أبرزها تسجيلها ابنها باسم غير اسم أبيه لأنها خافت أن تخبر “حازم” الأب بضرورة قدومه للولايات المتحدة- لتذهب إلى أمها حيث ترقد في المشفى، لتخبرها أنها فعلتها وأنها قادرة على تيسير أمورها بنفسها، بعكس ما أقنعتها به طوال حياتها. وفي مشهد آخر نرى “هنا” التي تسيء لأختها الأصغر بالألفاظ، عندما ترفض أختها الذهاب معها لبيت “مؤنس” بعد زواجهما، كانت ببساطة تعيد تدوير نفس الطريقة في الكلام والتحكم التي مورست معها من أمها.

في النهاية لا تكوني أم “هليكوبتر”. مصطلح الأم الهليكوبتر هو مصطلح تربوي يشير إلى الأم التي تحوم حول أبنائها طوال الوقت ودون توقف، بأغراض كثيرة كما ذكرنا، لكن يجب ان نتذكر أن الحماية ليست الهدف من التربية، ولتكن لنا في “هنا” نموذج عما يمكن أن تفعله السيطرة بأبنائنا.

اقرأ أيضًا: الأم الهليكوبتر vs الأم الغواصة


المصادر:

www.psychologytoday.com

www.parents.com

المقالة السابقةتأملات في كتابيّ “التعافي وحب الله” و”الروحانية والتعافي”
المقالة القادمةثقافة الاعتذار: كم “حازم” بالحياة؟

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا