الخرس الزوجي: الأسباب والعلاج

1900

قديمًا.. كان أكثر ما يُخيفني من فكرة الارتباط أو الزواج هو أنني لست قادرة على التحكم بكل مدخلات المعادلة مهما فعلت، فخطة النجاح أو الفشل لا أحمل على عاتقي منها سوى 50%، بينما تظل الـ50% الأخرى معلقة برقبة أحدهم. وحينما تعرفت بـ”أحدهم”، كان أكثر ما لفت انتباهي إليه هو ذلك الوقار، الذي يُعطي لكلماته القليلة معنى، يُعادل ألف مما يُعبّرون به، وشيئًا فشيئًا توارت الكلمات لتحل محلها الأفعال، فـحينما كان يريد أن يُعَبر لي عن مدى حبه، كان يفعل شيئًا من شأنه أن يحيل دقات قلبي الحالم الغافي في مخدعه إلى موتور سيارة فراري.

والحقيقة أن شيئًا لم يتغير منذ ذلك الحين، حتى مع مرور نحو 7 أعوام على أول لقاء بيننا، فلغة الحب في عقيدته لغة واضحة، لا يُخطئها قلب، ولا يُنكرها عقل، لكن ربما اشتهت روحٍ أنهكتها أيام وليالي كورونا الطويلة، هي روحي.. تلك التي لم تكل، لكنها ملّت كثيرًا، فكونها تحبه حد التعب، راحت تُعد له الأرض كي يستريح، بينما تئن هي من الإجهاد والملل، ولم يعد يُعزيها قليل كلماته.

حينها كان قد مر على ظلال كورونا السوداء قرابة سبعة أشهر. سألته: “حبيبي.. إنت عارف إحنا قاعدين مع بعض في نفس الأوضة وأنا بصالك وإنت مركز في الموبايل بقالنا قد إيه؟”، ليُجيبني متفاجئًا: “والله مسحول وعندي مليون حاجة مش عارف هتخلص امتى؟”. في ذلك اليوم أشفقت عليه من كثرة ما بدا وجهه مُجهدًا، لكنني أعرت الأمر انتباهًا وجهدًا كبيرين حتى لا نقع في فخ الخرس الزوجي اللعين.

حياة خالية من الخَرس الزوجي

لديّ اعتقاد بألا تكف التجارب من حولي عن إثبات صدقه، بأن الشريكين المثاليين لا يحتاجان لأكثر من حياة عادية يتشاركان تفاصيلها، شريكان لا يفعلان شيئًا خارقًا للعادة، لكن لديهما قدرة غير عادية على تمضية أوقات فراغهما بالمنزل بشكل ممتع ومثير للحماس، وهذا هو مربط الفرس، فشريكان يفهمان مواطن المتعة والمرح لدى كل منهما بالحياة، قادران دومًا على إضفاء نكتهما الخاصة للحظات الحياة الرتيبة، ومستعدان لصهر اهتماماتهما معًا لخلق مساحة جديدة من السعادة والمرح، هما بلا شك شريكان مثاليان، قادران على مواجهة أحلك مشكلات الحياة وأعقدها.

في بداية حياتنا الزوجية، وضع زوجي روتينًا شهريًا، منذ أيامنا الأولى عبر جلسة تجمعنا، نتجاذب فيها أطراف النقاش حول كل شيء دار خلال هذا الشهر، عتاب أو ربما شكوى، أو حتى كلمة شكرًا ممهورة بقبلة حنونة على اليد، كان هذا التقليد بمثابة عصا سحرية تتجدد بها روحي كلما داهمها فتور عابر، لأني بالأساس شخص ملول بشدة.

لكن خلال العام الماضي بدأ هذا الروتين في الخفوت رويدًا رويدًا، حتى أن أحدنا لم يُذَكِر الآخر به، وحينما انتبهت تنبّبهت لكوّن ضيف غير مُرَحب به قد دنس أعتاب منزلنا، هذا الضيف البغيض هو الخرس الزوجي، الذي ما أن حل ولت معه غالبية طقوسنا الزوجية، كأن يأتي زوجي من الخارج، لينضم إليّ بالمطبخ ويبدأ في سرد أحداث يومه: كيف مرت؟ من صادف؟ وماذا أنجز؟ هذا الطقس الذي لم أعره اهتمامًا إلا حينما اختفى.

اقرأ أيضًا: الخرس الزوجي يصيب الرجال كلهم.. لا أستثني أحدًا

أسباب الخرس الزوجي

يُعدد علماء الاجتماع والعلاقات الزوجية أسباب الخرس الزوجي ويقسمونها إلى 3 أسباب رئيسية:

أسباب شخصية

وهي أسباب تعود لطبيعة التربية التي خضع لها أحد الشريكين أو كلاهما، وانطوت على العزلة أو التجنب، وحلول الصمت الدائم بين الوالدين، بحيث أكسبت تلك السمات الأبناء صفة أو أكثر من صفات الشخصية الانطوائية.

أسباب اجتماعية

وهي أسباب تعود لعدم كفاءة أحد الزوجين أو كلاهما كشريك في الحياة الزوجية، وعدم قيامه بدوره الاجتماعي بشكل صحيح، وبالتالي وقوع خلافات دائمة وعدم إيجاد سبيل لمناقشتها بهدوء وثقة.

أسباب اقتصادية

وتنطوي على مرور الأسرة بفترة عصيبة من المشكلات الاقتصادية في ظل ارتفاع متطلبات وأولويات الحياة، وبالتالي سيادة حالة من الضغط العصبي والخوف والتوتر.

اقرأ أيضًا: 5 خطوات لإنهاء الخلاف مع شريكتك بسرعة ومحبة

في جانبي من القصة أظن أن ما من أسباب شخصية أو اجتماعية في الأمر، فزوجي رجل اجتماعي بقدر مقبول، وكما ذكرت سلفًا، رغم قلة حديثه في المطلق، إلا أنه معي معتاد على الحكي، بل وحتى الفضفضة، ناهيك بكونه لم يرتبط بأي مساحات مستحدَثة للتنفيس عن خرسه، كأن يخلق وقتًا من العدم لتمضية وقت رفقة أصدقائه، وهو الأمر الذي كنت أدفعه دفعًا نحوه خلال تلك الفترة دون فائدة.. “طيب كلم أصحابك واخرج افصل شوية معاهم واقعدوا اتكلموا في أي حاجة غير الشغل”.

لكن لمَ لا تكون الأسباب اقتصادية، وقد ظهرت خلال مرحلة متقدمة من أزمة كورونا، حينما توقفت حركة الإنتاج في كل شيء، وزوجي بفطرته رجل لا يتوقف عقله عن العمل حتى بينما هو نائم. أظن أنه يفكر: ما تبعات هذه الفترة؟ هل ستؤثر على عمله لفترة  أكثر طولاً؟ في ظل بزوغ أولويات أخرى جديدة كتعليم صغيرنا، وما إذا كنا سنسند إليه شريكًا جديدًا يتقاسمنا معه؟ كل ذلك أنهك رأسه. لكنه في كل مرة كان كعادته يخشى إحراقي بنيرانه حتى تهدأ، فقد كان دومًا يجيب باقتضاب: “مضغوط الفترة دي جدًا بسبب مشروعات شغل مبتكملش.. معلش سامحيني”.

الحقيقة أنني رغم قسوة ما عايشته خلال تلك الفترة من مشاعر، فقد أشفقت عليه كثيرًا، وتمنيت لو أن صوت الإنذار بداخلي يهدأ ولو قليلاً، لأنه حقًا من شدة إنهاكه كان قد ذَبُل وجهه تمامًا، إلا أنني خشيت اعتياد سكوته، فقلت له: “أنا مش هلفت نظرك تاني للموضوع ده، بس حتى زين (طفلنا) بقى يتضايق لما ييجي يلفت نظرك بحاجة عملها ويلاقيك مش منتبه له”. ولأن زوجي شديد الصبر وطولة البال، لم يكن يكل أو يمل من التبرير بالانشغال بابتسامة فاترة، ولأن الوضع كان يملأ أركاني بالوحدة والغضب، بدأت في صياغة خطة جديدة، لن أقوم بتذكيره بالأمر ثانية، أما أنا سأعود سيرتي الأولى فراشة تحلق.. لا يحيلها عن التحليق شيء.

وبعد أن كان الصمت سيد الموقف، احتل شدو غنائي الأركان، يعانقه صوت “زين” المجلجل ضاحكًا، وهكذا مرت أيامي بينما أنا منشغلة في القراءة ومتابعة عملي، حتى عاد زوجي ذات ليلة متسائلاً: “بتعملوا إيه وناسييني كده ولا حتى بتردوا على مكالماتي؟”، لأخبره بدهاء: “لا إحنا عارفين إنك مشغول، فبندعيلك في سرنا بقى، وإنت لما تحس إن الدنيا ظبطت شوية انضم لنا يا مرحب بيك يا بابا”.

حلول عملية للخرس الزوجي

ما يحمله جانبي من القصة، ربما ليس بكل شيء، فزوجي كان خلال هذه الفترة يمر بفترة عصيبة من ضغوط العمل، كونه المسؤول الأول عن جانب معين من جوانب إتمامه، بعد فترة انقطاع تسببت فيها كورونا، لكن قد تكون الأسباب في حالات أخرى أقل مباشرة وأكثر تعقيدًا. كأن يكون الأمر مرتبطًا بأسباب شخصية، كبيئة تربية أحد الزوجين أو كليهما، والتي اعتاد فيها على أن لكل شخص ركنًا من الحياة يحتله ويكتفي به دون مشاركة تذكر من المحيطين، أو أن أحدهم لا يشارك الآخر اهتماماته أو هواياته، أو ربما حتى لم يعتد معه على الفضفضة والنقاش بحرية، أو ربما كان الخرس الزوجي بوابة لتغيرات عاطفية يمر بها الزوج أو الزوجة.

لكن الأكيد أن هناك ثمة حلول عملية تصلح لغالبية الحالات، وإن لم تُجدِ نفعا مع القليل منها، مثل:

  1. المواجهة ورصد الموقف: “أنت لم تعد موجودًا.. انتبه”.
  2. استعراض الأسباب بشكل واضح: “الإنكار لن يزيد الفجوة بيننا إلا اتساعًا، هناك مشكلة ولا بد من البحث في أسبابها”.
  3. محاولة التوصل لحلول في الحالات التي تستوجب ذلك، مثل الفتور العاطفي، والذي يُمكن حله عبر الابتعاد لفترة من الزمن، لاختبار مشاعر الاشتياق واللهفة بينهما، أو في حالة عدم وجود اهتمامات مشتركة، وذلك بخلق مساحة جديدة من اهتمام أو شغف يتوسط منطقة اهتماماتهما معًا، كقراءة كتاب ومناقشته، أو تعلم العزف على آلة موسيقية، أو ربما اكتساب لغة جديدة ومشاركة كل منهما الآخر في حصيلته اللغوية منها.

أما في حالة الأسباب الطارئة أو غير القابلة للتدخل، كالانشغال المستمر بضغوط العمل، ينبغي أن يُساعد الطرف المتضرر من الخرس شريكه، بأخذ خطوة للوراء واستمراره في تقديم نموذج لحياة طبيعية دون خلل يُذكر، لتذكير هذا المتخم بمهام عمله، بالحياة في صورتها الطبيعية، وإخباره بشكل غير مباشر أن موقعه من تلك الحياة ينتظره حين تنقضي فترة انشغاله، فالطَرق على الحديد ساخنًا في هذه الحالة من شأنه أن يُحدث خللاً، دون ان يقدم حلولاً فعلية.

اقرأ أيضًا: الحب في زمن الكورونا: صور الفرج والرحمة من قلب الكارثة

المرأة والخرس الزوجي

من المتعارف عليه بحكم الفطرة أن المرأة هي الشريك الأكثر جنوحًا للحديث والبَوح، وبالتالي فإن اعتلال الحياة الزوجية خلال فترة ما منها بداء الخرس الزوجي، من شأنه أن يُمثل مشكلة حقيقية لها، ويدفعها دفعًا نحو التفكير في أمور من شأنها أن تزيد مساحة الجمود العاطفي بينها وبين الشريك. ففي الوقت الذي قد لا يخرج تعبير “الخرس” عند الرجل عن كونه انشغالاً، يكون مرادفًا عند المرأة بـ”لم يعد يحبني”، “أصابه الملل من علاقتنا”، وهي مرادفات باعثة على الحزن والوحدة والشعور بالرثاء على الحال.

لذلك فعلماء النفس ينصحون المرأة في حالات الخرس الزوجي بعدم الصدام عند مواجهة الزوج بحقيقة حلول الخرس كضيف ثقيل الظل، كذلك عدم استدعاء مشكلات قديمة لتعزيز موقفها كضحية، ورغم صعوبة المشاعر التي تسيطر عليها خلال تلك الفترة، عليها محاولة إحداث تغيرات ملموسة في رتم الحياة، ناهيكِ بعدم قصر النقاشات بينها وبين الزوج على الخلافات العائلية ومشكلات الأبناء، وعدم استبعاد الأمور البسيطة، كالتعليق على نتيجة مباراة انتهت للتو، أو معرفة رأيه في أغنية أو فيلم عُرض حديثًا، هذا كله مع الرفق بالنفس وتجنيبها الدخول في متاهات نفسية مُعقدة.

اقرأ أيضًا: ١٠خطوات تنقذ علاقتك الزوجية من الفشل

ما بعد الخرس الزوجي

الشريك أو الشريكة، العائدون من الخرس، يكونون كالأطفال، حديثي العهد بالكلام، لا يجب إغراقهم بنقاشات مُعَقدة، وفي ذلك الوقت لا يمكن تركهم بلا حوار. حاول أن تأخذ الشريك إلى عالم الحديث الطبيعي بشكل سلس، لا يحمل عتابًا ولا مبالغة. مثلاً: “إيه رأيك نخرج نتمشى شوية؟” وحينما تمر الفترة الأولى بسلام، ويبدأ في مشاركة جزء من همومه اليومية، إياك ثم إياك أن تغفل عن متابعة الأمر معه، وسؤاله: “عملت إيه في المشكلة الفلانية؟ إيه رأيك لو عملت كذا؟”، مع ضرورة الانتباه لرغبته من عدمها في مناقشة الأمر والبت فيه.

في الحياة الزوجية.. نحن نطهو تصوراتنا المثالية عن الحياة، ونضيف إليها شيئًا من إيماننا بأن التقصير وارد وأن الخطأ ليس نقيصة إنسانية، مع صبر تورّثه لنا الأيام، وأمل في أن الغد، بفضل الحب والمشاركة سيكون أقل مللاً وأكثر دفئًا، وإن لم يغازل أحلامنا الوردية في بعض الأوقات. في النهاية سنحصل على وجبة ساخنة نعرف يقينًا أنها كانت تستحق صبر وعناء الرحلة.

اقرأ أيضًا: 10 فوائد للحضن، فوائد الحضن للرجال والنساء والأطفال

المقالة السابقةما فعلته بي الوحدة وفرط التحمل
المقالة القادمةرالف المدمر: مفاهيم خاطئة عن الصداقة
كاتبة وصحفية مصرية

1 تعليق

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا