عالم المماليك في رواية “أولاد الناس”

1828

بقلم: ندى عصفور

ما أصعب أن تعيش في زمن لم يعد موجودًا بعد، تشعر به بكل أحداثه، بتفاصيله، كأنك تعيشه لحظة بلحظة، بل وتعشق عصرًا كانت فيه بلدك محتلة، تعشق شخصياته، تعشق ظلمه، بل وتعشق البحث فى خباياه! ذلك ما شعرت به عندما قرأت رواية “أولاد الناس – ثلاثية المماليك” للكاتبة الدكتورة ريم بسيوني. ذلك الكتاب الضخم الذي تعدت صفحاته الـ759 صفحة من الأحداث الرائعة.

الدكتورة ريم بسيوني وروايتها

قبل أن نبحر في سماء رواية “أولاد الناس”، لا بد أن نتعرف على كاتبة تلك الرواية الدكتورة ريم بسيوني. هي كاتبة وروائية مصرية، حصلت على ليسانس آداب قسم اللغة الإنجليزية بجامعة الإسكندرية، وحصلت على درجتي الماجستير، والدكتوراه في علم اللغويات بجامعة أكسفورد ببريطانيا، وتعمل الآن أستاذًا بالجامعة الأمريكية.

صدر للدكتورة ريم بسيوني سبع روايات: رواية “بائع الفستق” التي حصلت على جائزة أحسن عمل مترجم في الولايات المتحدة لعام 2015، ورواية “الدكتورة هناء” التي فازت بجائزة ساويرس الأدبية لعام 2010، ورواية “الحب على الطريقة العربية”، ورواية “أشياء رائعة”، ورواية “مرشد سياحي”، وأخيرًا رواية “أولاد الناس – ثلاثية المماليك” التي حصلت على جائزة نجيب محفوظ للأدب من المجلس الأعلى للثقافة لعام 2019-2020.

رواية “أولاد الناس” وقصصها الثلاثة

تحتوي الرواية على ثلاث قصص منفصلة بشخصياتها، متصلة بأحداثها، ومع كل قصة تعيش في حالة مختلفة، تحلق بها مشاعرك وأفكارك في عالم التساؤلات والدهشة والإعجاب. القصة الأولى هي قصة الأمير المملوكي “محمد بن عبد الله المحسني”، وبنت الناس “زينب” بنت أحد التجار التي تزوجها الأمير عنوة، لكي يفرج عن أخيها وخطيبها الذي كانت ستزف إليه بعد قصة حب عاصفة لمدة سنين.

ولكن على الرغم من قسوة وظلم الأمير المملوكي لها، فإنها وقعت في حبه بعد فترة من زواجهما، وأنجبت منه ثلاثة ذكور، “علاء الدين” و”أبو بكر” و”محمد”، وابنتين “نفيسة” و”علية”. وهو أيضًا عشقها وحرم على نفسه كل نساء العالم من بنات أمراء المماليك والجواري الجميلات من كل نساء العالم، وشهد عليه عصره بإخلاصه لمماليك السلطان الناصر “محمد بن قلاوون” وبطولاته الحربية، ومحافظته على أراضى البلاد.

لكن كيف يملك قلب امرئ القسوة والظلم والعشق والإخلاص في نفس ذات الوقت للمرأة التي يحبها؟! هل يمكن أن تُبنى حصون وقلاع على نفوسنا الرقيقة، حتى نملك من نحب، أم هو حالة فردية رغبت الكاتبة أن تشير إليها؟ وكيف عشقته وأحبته “زينب” على الرغم من قسوته وظلمه لها؟ هل رأت ما وراء تلك الحصون والقلاع التي تحيط قلبه وأحست بها، أم رضخت للأمر الواقع وأعلنت راية الاستسلام؟ لم يهدني تفكيري في تلك الحالة سوى لشيء واحد فقط، أن الأمير “محمد” اعتاد على الخطف والقسوة في حياته، لذلك لم يرَ فيما قام به مع “زينب” خطأ، وأن “زينب” قد سامحته بسبب ذلك، ورأت روحه الجميلة فقررت أن تعشقها، وتعيش معها.

القصة الثانية

أغرب من العجب، وهي قصة قاضي قوص “عمرو بن أحمد بن عبد الكريم”، الذي عرف بعدله وطموحه وتطلعاته، ورغبته في أن يعتلي المناصب العليا في البلد. قد تزوج ابنة قاضي القضاة في سن الواحدة والعشرين، وأنجب منها ولدين، ولكنها توفيت في عمر صغير. عاش القاضي في ورع وعدل حتى رأى “ضيفة”، تلك الفتاة التي سحرت قلبه بجرأتها وملامحها، التي لم يرَ جمالها في أي امرأة أخرى، وتعلق بها بشدة رغم ما كان يدور حول كونها غريبة الأطوار، لمصاحبتها امرأتين تاجرتين، إحداهما تصاحب الضباع، والأخرى تعلم في أمور السحر.

لكن الحب كان له رأي آخر في ذلك الشأن، وقد طلقها من زوجها الذي قد شكته إلى قاضي قوص، وذلك لعدم دخوله بها، وسفره من البلاد لمدة عام بعد أن كتب عليها بدون أي سبب، وقسوة أبيها التاجر الطماع معها، وأجبره على رد مهرها لطليقها، وتزوجها ورحم أمها و”ضيفة” من أبيها الظالم وزوجها غير المحب.

لكن عندما أبحرت في ثنايا صفحات تلك القصة أخذ سؤال يلاحقني دائمًا: هل قاضي قوص كان عادلاً مع نفسه عندما سلمت له ضيفة نفسها بدون زواج؟ هل كان عادلاً مع نفسه عندما طلقها عنوة من زوجها الذي ندم على فعلته ورغب أن يصلح علاقته بـ”ضيفة”؟ هل كان القاضي في تلك الحالة قد ملأ العشق قلبه وغطا على فكره، فأصبح سكير العقل، أم أصابه داء الجنون؟

القصة الثالثة

هي قصة الأمير “سلار” وبنت الناس “هند بنت أبي بكر” راوي وكاتب وأحد شهداء ذلك العصر. في تلك القصة تزوج الأمير “سلار” من “هند”، لكن بعد أن اشتراها هي وأخاها من العثمانيين كجارية عنده، عندما كان يختبئ في زي فلاح بسيط يعمل في مزرعة خطاطًا، ذلك طبقًا لخطة قد وضعها المماليك لحماية البلاد من العثمانيين. لكن ما حدث أن الأمير “سلار” أجبر “هند” على معاشرته بالعنوة، تحت مسمى أنه قد اشتراها وهي الآن جارية مملوكة له، رغم تأكيدها له مرارًا وتكرارًا أنها من أولاد الناس وأن أباها رجل له شأن، وأنها فتاة رغبت فقط في حماية أخيها الصغير من بطش العثمانيين. إلا أنه لم يرحمها، بل استمتع بكسرها.

وفي النهاية عند هزيمة المماليك وصلها هي وأخاها على فرسه إلى بيت أبيها، وبعد زمن ومدة جاء ليتزوجها، وهي أحبت من كسرها. هل “سلار” كان على جهل بأصلها فعلاً أم كانت عادة لدى كل أمير مملوكي أن يظهر القسوة والظلم قبل الحب والرقة، ومن عادة النساء التسامح؟ 

قصتي الرابعة في رواية أولاد الناس

لم أجد تلك الرواية تحتوي على ثلاث قصص فقط، بل إنها تحتوي على أربع قصص، فالقصة الرابعة هي قصة “الأصغر محمد” ابن الأمير “محمد” الذي هوى الرسم وفن العمارة، وأصر أن يخلد ذكرى والده إلى الأبد في بناء مسجد السلطان حسن، الذي يعد مسجدًا فريدًا من نوعه في زخرفته وبنائه، فهو أثر يحكي وسيحكي عنه التاريخ إلى الأبد. فلم يكن الأمير “محمد الصغير” جنديًا محاربًا مثل والده، بل كان جنديًا في علم الهندسة والعمارة.

فتلك الرواية جعلتني أفكر كثيرًا كيف سيحكي الزمان عصرنا الذي نعيش فيه؟ وماذا سنترك للأجيال القادمة من أعمال تخلد ذكرنا إلى الأبد؟

اقرأ أيضًا: ناقة صالحة وراوية الأفلام: حين تفوق الرواية الأدب

المقالة السابقةورقة وقلم: هنا وجدت الشغف
المقالة القادمةستات بالدنيا: مبادرة لدعم نساء خرجن عن المألوف
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا