قطعة السكر التي تكره الذوبان

1084

بقلم: ياسمين أحمد مصطفى

حفرة عميقة ومظلمة تلك التي أسقط بها، بمجرد أن تخفت الأصوات في البيت ويخلد صغاري إلى النوم، حفرة لا يمكن لأحد أن يتصور وجودها في حياة هذه السيدة السعيدة، وربة الأسرة الناجحة، الأم التي لا تخفت ضحكاتها أبدًا.

الحقيقة أنني في الكثير من الأوقات أكره الشكوى، لأنني أحسبها نوعًا من الجحود، ما الذي يمكن أن أشكو منه وأنا محاطه بهذا الكمّ من النِّعم، بيت جميل وأسرة صغيرة واستقرار عام وظاهر! أتلفت حولي وأحاول التمرد، فأصطدم بالكثير من القصص الدرامية على جروبات فيسبوك، فأجد من تتحدث بأريحية تامة عن تقبلها لضرب زوجها لها لمجرد أنها كانت تتحدث إلى واحدة من صديقاتها تليفونيًا. أقلب في التعليقات المختلفة بذهول لأنني أرى تشكيلة عجيبة من الآراء، ما شاء الله كل شيء موجود! على صفحة أخرى أجد من تشتكي من بقائها في منزل أهل زوجها ومن كونها تلتزم بخدمتهم ولا تشعر بأي خصوصية في حياتها، فتتحدث مثلاً عن أنها لم تتناول الطعام قط مع زوجها على انفراد، لم تتشارك معه مشاهدة أحد الأفلام، فتتفاجأ من سخرية بعض التعليقات من مشكلتها لأن غيرها تتعرض للتحرش من أهل زوجها، وتضطر لالتزام الصمت لأنه ستكون بالتأكيد هي المذنبة الوحيدة!

أترك كل هذا وأنتقل إلى صفحة أخرى، ممكن فيها أن أجد مشكلة تشبه مشكلتي التي أعجز عن تحديد ماهيتها بالضبط، لأجد من تتحدث عن حبيبها الذي تركها وارتبط بصديقتها التي كانت قد تدخلت لحل خلاف بينهما، فأجد في التعليقات من تعلق على كونها أخطأت لأنها تحكي لصديقاتها عن أمورها الشخصية، فتعلق أخرى على هذا التعليق بأننا أصبحنا نعيش في قواقع من فرط خوفنا من الناس والحسد. أريد أن أعلق وأقول لها إن عليها أن تكون ممتنة للقدر الذي منحها فرصة رؤية الوجوه الحقيقية للأشخاص، ولكني كالمعتاد أكتفي بالمراقبة.

يسألني زوجي ذات مساء لماذا أبدو متضايقة بلا سبب واضح، فأنا -على حد قوله- دائمًا أجلس في الظل على الدوام، لأنني لا أحتمل الشمس الحارقة، أنا لا أحمل هموم مال أو مصاريف، لهذا أنا مرتاحة (أو هكذا يجب أن أكون)، أنظر للحظات إلى شاشة هاتفي في شرود، أفكر في أن أكرر عليه أسطوانة أنني لا أشعر بنفسي إطلاقًا وسط كل ما أحياه، أنا تائهة تمامًا، أفتقد إلى الشعور بذاتي، ولكن عيني تصطدم بمنشور تتحدث صاحبته عن زوجها الذي أخذ منها شبكتها في اليوم التالي لزفافهما، بحجة أنه يريد أن يبدأ مشروعًا ليساعدهما في حياتهما الجديدة! فترد عليها إحداهن قائلة “ولسة هيخليكي تبيعي ذهبك حتة حتة بعد كده”. أرفع عيني إليه وأقول “لا، لا شيء، مرهقة من شغل البيت ومشاكل البنات”، فيسارعني بالحديث عن السيدة المطلقة التي تعمل في عيادته وتحاول أن تربي ثلاث بنات بمفردها وتهتم بوالديها المسنين، وكأنه يقرأ أفكاري ويسدّ أمامي طريق الشكوى من مشكلاتي الوجودية!

أتمدد في فراشي إلى جواره في المساء، أتأمل السقف المظلم متخيلة إياه حفرة تبتلعني بلا رحمة، ظلام تام وعمق مخيف وفراغ بلا نهاية، أنظر إليه فأجده يقرأ شيئًا ما على شاشة هاتفه! تنعكس عليه إضاءة الشاشة ليبدو كبقعة نور بعيدة وسط ظلام الغرفة الهادئ. أتنهد وأضع يدي على رأسي، أفكر في السيدة التي كانت تتحدث على إحدى الصفحات عن زوجها وعلاقاته النسائية المتعددة، وعن نصائح البعض لها بالصبر لأنه “هييجي يوم ومصيره يتهد وهتفضل هي بس في الآخر”، وكأن أوجاع الروح لا محل لها في هذا العالم العجيب!

هل من السهل أن تتجاهل امرأة إحساسها المهين بعدم الكفاية؟ هل من السهل أن تتخلى عن كرامتها لتعيش محتفظه برجل لا يقدرها وعائلة تستنزف كل إمكانياتها وقدراتها البشرية، لتتحول في النهاية إلى كائن غريب لا يتمكن من الإجابة على سؤال بسيط مثل “كيف حالك؟”، لترد قائلة إنها بخير هي وصغارها، وكأنه لا وجود منفصل لها! وكأنها ليست شخصًا مستقلاً بذاته يمكنه أن يتحدث عن نفسه فقط.

الشارع ممتلئ بهذا النمط من السيدات، تعمل من أجل بيتها وتعيش من أجل أطفالها وتتحمل الكثير من أجل الاستمرار، أتذكر منشورًا لإحدى السيدات التي لديها عدد كبير جدًا من المتابعين، تتحدث فيه عن العلاقة بين العمل وتحقيق الذات، ولماذا تتكبد الكثير من النساء عناء العمل بحجة تحقيق الذات، وأنه لا شيء في الحياة يستحق أن تترك أم أطفالها وتعود إليهم منهكة غير قادرة على مجاراتهم في المتطلبات والاهتمامات، فأجدها محقة نوعًا، وخصوصًا أنه لا يمكن أن ندعي أن سكرتيرة زوجي تعمل من أجل تحقيق ذاتها، وأن “أم فلان” التي تبيع الخضر في السوق تجلس على الأرض طوال النهار من أجل تحقيق الذات! أجدها محقه لولا أن جانبها الصواب في أمر واحد، هي لا تحقق ذاتها، ولكنها تكفي احتياجاتها هي على الأقل، وهذا دافع عظيم جدًا، يكفي أن تعمل المرأة من أجله في مجتمع يسمح بكل شيء للرجل ويلوم المرأة على أي شيء.

أتنهد مرة أخرى وأنا أفكر في نفسي، صحيح أن البوح بالمكنونات صعب، ولكن من يهتم بأحلامي البسيطة؟! وكيف أستطيع أن أخبر زوجي وسط كل هذا الصخب وكل هذا الركض بأنني مستاءة، لأنني أشعر بالوحدة وسط وجوده ووجود الصغيرات؟! أشعر بفراغ ضخم داخلي لأنني لم أعد أنا التي كنت أريد أن أكونها. كيف أخبره أنني فقط أتمنى أن يتركني أحكي له عن الرواية التي قرأتها مؤخرًا، أو أنني أتمنى أن أجد من يُعد لي طعام الإفطار لصباح واحد؟! لا يجب أن تكون كل المشكلات مادية لنعترف أنها مشكلة، فجميعنا لا نملك ذات الروح.

يترك هاتفه ويضعه إلى جواره وينظر لي “لماذا لم تنَمي حتى الآن؟”. أريد أن أتحدث مرة أخرى عن وحدتي التي لا يشعر بها، فيسبقني هو -كالعادة- قائلاً: “أنا مش عارف فعلاً إنتي متضايقة ليه؟ إنتي متعرفيش إنك حتة السكر اللي بتحلي حياتنا؟”. أتذكر حوارًا لبطلي فيلم “عقيدة” وهما يتحدثان عن قطعة السكر التي تفقد حالتها المادية عندما تذوب، ويستحيل أن تعود إلى حالتها الأصلية بعد ذلك، مشبهين حالها بالوضع العجيب الذي يصبح فيه البطل عندما يكون في وضعه المعكوس.

الكثير من النساء يشبهن في الحقيقة قطعة السكر تلك، يتحولن إلى حالة أخرى تمامًا، من أجل الكثير من الأهداف ولخدمة العديد من الظروف، وعندما يقتربن من التلاشي لا يجدن أمامهن الوقت للتفكير فيما فات، وتصبح فرصة التعويض مستحيلة. والغريب أن قطعة السكر التي ترفض الذوبان وتكرهه تتصف دومًا بالجمود. والحقيقة أننا قطع السكر التي تكره الذوبان لا نكرهه، لأنه وظيفتنا التي فرضتها علينا الطبيعة، بقدر تمسكنا بالحفاظ على جزيئاتنا مرتبطة، لنحفظ كياننا من أجل من نحب، وليس لأننا عاجزون عن العطاء بشكل أو بآخر.

اقرأ أيضًا: هل نتغير بعد الزواج؟

المقالة السابقةAnne with an E: الحالمون يغيرون العالم
المقالة القادمةالخوف: ما فعله بحياتنا
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا