Anne with an E: الحالمون يغيرون العالم

1897

بقلم: سلمى محمد

يقولون إن الحالمين يصنعون التاريخ، فهم مَن يقودون ثورات التغيير في كل بقاع العالم، تجدهم في الصفوف الأمامية ينددون، يشجبون، تعلو أصواتهم عنان السماء سعيًا وراء التغيير، الحرية وقلب الأوضاع التي تجثم على قلوبهم وتعوق أحلامهم، لا يعرفون الفشل وفي قواميسهم لا توجد كلمة مستحيل، هؤلاء من لا يكتفون بمجرد الحلم مثل غيرهم، فهذا أصلاً ما يُميزهم!

كلنا نحلم، كلنا نريد تغيير أوضاع نمقتها ونتمنى لو تغيرت، لكن القليل منا فقط مَن ينفضون غبار المستحيل عن أحلامهم ويتحلُّون بالشجاعة الكافية للقتال على ما يريدون، لا يهابون الفشل ويرحبون بالتحديات، يعلمون أن الفشل في معركة لا يعني خسارة الحرب، لذا يحاولون مرارًا وتكرارًا مهما كلف الأمر، يدعوهم البعض مجاذيب، مجانين ومتشبثين بالمستحيل ولكنهم يتبعون شغفهم وفضولهم من أجل تحقيق أحلامهم، ولا يرون سواها وعندما يحققونها سرعان ما تتحول نظرات كارهيهم إلى إعجاب وحسد، فللأحلام لذة لا ندركها سوى عندما نراها تتحقق أمام أعيننا.

Will you please call me Anne? Anne with an E

عليك الترحيب بـ”آن” (بالألف الممدودة)، واحدة من هؤلاء الحالمين، بل ربما يصلح أكثر تلقيبها “آن الخيالية زعيمة الحالمين، صهباء بجسد نحيل ونمش متناثر على وجنتيها، ثرثارة لا تغلق فمها سوى في تلك اللحظات التي تخلد فيها للنوم، ولكنها متحدثة لبقة ما أن تفتح فمها حتى تجد شلالاً من المصطلحات المعقدة، التي يجب عليك العودة إلى المعجم لتعرف معناها، فضولية للحد الذي إذا وُزع على بلدة بأكملها لكفاها وفاض، تمتلك عينين جميلتين، يغلب عليهما الحزن أحيانًا، وكثيرًا ما تشع بهجة وحيوية!

هي من ذلك النوع الذي يسرق الأعين منذ اللقاء الأول، إذ تحدث جلبة غير مُنفرة أينما وجدت، قد تحبها لحد تصبح صديقتك المفضلة، وقد تكرهها وتحقد عليها لتكون ألد أعدائك، ولكنك في النهاية لن تستطيع هزيمة ذلك الشعور الداخلي، الذي يجبرك على احترامها والإعجاب بها مهما كانت مشاعرك تجاهها.

أنت أمنية تحققت لم أعلم بأنني أتمناها

الصدفة وحدها كانت السبب الرئيسي الذي جمع الشقيقين ماثيو” و”ماريلا بـ”آن، إذ قرر الشقيقان تبني طفل ذكر ليساعدهما في أعمال المزرعة، لتقدمهما في السن، وصعوبة مباشرة كل الأعمال بمفردهما، فكان الحل في عكاز يافع يستندان عليه، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، حيث أرسل الملجأ لهما -عن طريق الخطأ- فتاة يتيمة صغيرة، قضت فترة ليست بالقصيرة من عمرها تارة بين الملجأ وتارة أخرى تتنقل بين بيوت الأسر المختلفة، وفي حالتها تلك لن تعرف أيهما كان أكثر سوءًا. ورغم محاولتهما في البداية لإعادتها إلى الملجأ فإنها نجحت في سرقة قلببهما، ليقررا الاحتفاظ بها كفرد من العائلة، ويتغير الوضع في النهاية من خطأ عليهما إصلاحه، إلى أمنية تحققت لم يعلما أنهما يتمنياها، إذ غيرت آن حياتهما وجرين جيبلز للأبد.

حياتي مقبرة للآمال المدفونة

مسلسل Anne with an E المأخوذ عن الرواية الكلاسيكية Anne of green gablesللكاتبة الكندية لوسي مود مونتجمري، والذي قررت شبكة CBC تحويله إلى عمل تليفزيوني عام 2017، وأنتجت ثلاثة مواسم منه. يصحبنا في رحلة بديعة، ولكنها للأسف قصيرة، نحو عالم “جرين جيبلز“، حيث لا وجود سوى للطبيعة الساحرة والمناظر البديعة ونسائم الهواء الصافية، ولكن رغم كل تلك الجماليات فإن البلدة يغلب عليها وعلى سكانها الصمت والروتين القاتل، وأحيانًا الحزن.

هبطت آن على البلدة، ليتغير معها كل شيء، إذ يبدو أن الفتاة ذات الشعر الأحمر كانت الدافع الذي يحتاجه الجميع ليتغير، أو كأنها أضفت لمسة سحرية على البلدة، لتتحول من اللون الرمادي إلى علبة ألوان بألف لون.

صُدمت “آن” في البداية بعالم لم تعتد عليه،إذ أمضت فترة ليست بالقصيرة من حياتها لا تعرف سوى القسوة والوحدة، لم تعرف للحب عنوانًا، بل كل مَن عبر طريقها تسبب في إيذائها، لم تتخذ صديقًا طوال حياتها سوى الكتب العابرة التي ساعدتها أن تحيا بصورة مختلفة، بل وأنقذها خيالها النشط من أن تفقد عقلها أو تقرر إنهاء حياتها بصورة مأساوية، لم تلتقِ والديها قط، ولم تذهب للمدرسة يومًا، ببساطة لم تمارس حياتها بالصورة الطبيعية التي يفترض أن تحيا بها.

كما لم يكن الأمر سهلاً على سكان البلدة. فكيف تتوقع أن يتقبل الجميع فتاة يتيمة أمضت حياتها رفقة أطفال الملاجئ! قاطعوها، لم يتقبلوا وجودها، حاربوها ولكنهم في النهاية خضعوا للاستثنائية “آن”، التي نجحت في التمرد على مآسيها وانكساراتها، وأجبرت الجميع على التمرد على أوضاعهم القميئة مثلها.

حولت “آن” مسار كل شيء في جرين جيبلز، من النقيض إلى النقيض، بدءًا من “ماثيو” و”ماريلا“، والتي كانت بمثابة القطعة الناقصة في حياتهما الروتينية، إذ أضفت عليها جوًا دافئًا حنونًا، منحتهما سببًا أساسيًا للحياة، أنارت لهما طريقًا لم يعرفا بوجوده قط، ومنحتهما مشاعر الأبوة والأمومة التي افتقداها، حتى وإن لم يعلما بذلك.

ساعدت كول الوحيد، على اكتشاف مواهبه المدفونة، أرشدته نحو طريق كان يغفل وجوده، وأصبحت رفقته بعد أن لفظه الجميع. صادقت “ديانا” الأرستقراطية، ووجدت كل منهما ضالتها في الأخرى، بل وتعلمتا معًا معنى الصداقة، الحب والجنون والرفقة. نجحت في تغيير الصورة السيئة عنها لدى رفيقاتها في المدرسة، وأصبحت صديقتهن المفضلة، بعد أن كُن يتجنبن الحديث معها، بل وأضحت لهن مثل النافذة التي يطللن منها على العالم الخارجي. علمتهن أشياء ستظل ذكراها عالقة في نفوسهن، وخضن رفقتها مغامرات لن تُنسى.

وجدت في “جيلبرت” كل ما تبحث عنه وما لا تعرف بوجوده، كانت له منافسة الدراسة الذكية والصديقة، وأخيرًا الحبيبة التي سرقت قلبه وخطف هو قلبها من النظرة الأولى.

آنسة “ستايسي”، “جيري”، “باش” وزوجته، “كاكويت”، وحتى اللصوص، والقائمة تتسع للكثيرين.. فلم تكن آن مثل الغريب الذي جاء ورحل في صمت، إنما تركت بصمة وأثرًا واضحًا لن يُنسى على كل شخص وكل شيء.

فنجان شاي جميل سيضع الأمور في نصابها الصحيح

مثلما أنت بحاجة إلى كوب من الشاي لتعدل مزاجك السيئ أحيانًا، أنت أيضًا بحاجة إلى مشاهدة مسلسل “Anne with an e“، ليس فقط لتحسين مزاجك، ولكن للاستمتاع بتجربة استثنائية، تُبكيك وتسعدك في آن واحد، تجربة لن تحظى بمثلها طوال حياتك.

فالدفء هو الشعور الأول الذي يتملك روحك في كل لحظة تشاهد بها المسلسل، لينسيك الحياة بأكملها. الجو العام للمسلسل من المناظر الطبيعية الخلابة واللون الأخضر الذي يكسو الأراضي الواسعة، يشعرك بالراحة والاسترخاء، بينما الأزياء الراقية، الفساتين المنتفخة، القبعات الأنيقة، الرسائل الورقية، الشموع، المنازل العتيقة تشعر معها وكأنك سافرت إلى زمن بعيد تتمنى لو ولدت فيه.

علاقات الحب والصداقة الطفولية البريئة، بيت الشجرة ونادي القصة وتجمع الأصدقاء الذين رغم اختلافهم، إلا أن الحب والصداقة والشغف وراء الجديد كان الدافع ليبقوا معًا. الأنس والرفقة التي إن شعرت بغيابها عنك في الحياة الواقعية يعوضك المسلسل بجزء ولو بسيط منها، مفهوم السعادة والحزن الذي يبدو أنك على وشك إعادة اكتشافهما من جديد، فلا يمكنك معرفة الفرح إلا إن كنت قد عرفت الحزن“.

كل ذلك بجانب القدرات التمثيلية الهائلة لفريق التمثيل المميز، والذي رغم صِغر سن بعضهم وحداثة عملهم بمجال التمثيل، فإنهم أدوا أدوارهم بكفاءة عالية، تنم عن موهبة مدفونة، كانت تحتاج الفرصة وليس سواها، لكي تنفجر وتبهر الجميع.

ساهمت تلك العناصر في تكوين عمل درامي مميز، سيبقى في الذاكرة طويلاً، ورغم كون القصة الأصلية تبدو تقليدية إلى حد الملل، خالية من الإثارة، فإن المعالجة الدرامية للمسلسل أضفت جانبًا جديدًا ساهم في إثراء العمل وتحويله من رواية طفولية إلى عمل درامي ناضج ثري، يضج بالقضايا والمناقشات، من النسوية والتمييز العنصري وحرية الصحافة وغيرها من تلك القضايا الجدلية، المسماة بصخب العصر، ودون أن يقع في فخ الحشو والابتذال ومحاولة إقحام قضية على المشاهدين بالقوة، إنما كل شيء تم في إطار درامي متسلسل ومنطقي، لينجح في استمالة شبكة جمهور عريضة، ويجبر الكثيرين على متابعته، بل ويقفز على رأس قائمة أعمالهم المفضلة أيضًا.

لذا فإن كنت واحدًا من عشاق مسلسل Anne with an E فهنيئًا لك على تلك التجربة الرائعة، التي حتمًا لم تكتفِ بها لمرة واحدة، أما إن لم تشاهده بعد فأنتَ الخاسر الأكبر.

اقرأ أيضًا: مسلسل Modern love: عن الحب والدعم غير المشروط

المقالة السابقةربما حلاوة القهوة في مرارتها
المقالة القادمةقطعة السكر التي تكره الذوبان
مساحة حرة لمشاركات القراء

1 تعليق

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا