الرهاب الاجتماعي: حكاية القلق اليومي

1090

بقلم: سلمى محمود

خجولة، منطوية، سريعة الانفعال والغضب، تقلق بشأن الأنشطة الاجتماعية وتتجنب التعامل مع الغرباء، تجد صعوبة في القيام بالأشياء عندما تكون أعين الأخرين مسلطة عليها، يلازمها التوتر والقلق وتتردد كثيرًا بشأن قراراتها، يلاحقها دومًا الخوف من الانتقاد أو التعرض للإحراج، تزورها بين الحين والآخر نوبات هلع عندما تعلق في موقف لا تتمكن من التعامل معه، والقائمة تطول. كنت أظن أنها مجرد اضطرابات عادية، تحدث لمعظم البشر في بعض المواقف الصعبة، أو خجلاً زائدًا عن الحد، أو انطوائية شديدة، أو مجرد عجز في بعض مهارات التواصل، لم أشك بأن هناك خطبًا ما خاطئًا بي، إلى أن وجدت تلك الاضطرابات تتخلل حياتي اليومية بغزارة، ولا تقتصر على المواقف الصعبة، إنما حتى المواقف الاجتماعية الاعتيادية بات بها مشكلة ملحوظة، وأصبحت تؤثر على ثقتي بنفسي وحياتي سلبًا.

تعريف الرهاب الاجتماعي Social Anxiety Disorder

بالصدفة البحتة قرأت مقالاً على الإنترنت يتحدث عن الرهاب الاجتماعي (أو اضطراب القلق الاجتماعي) Social Anxiety Disorder، والذي يُشعِر المصاب بالخوف والتوتر من المواقف الاجتماعية الاعتيادية، لذا يتحاشى على الدوام البقاء وسط الجموع، لكونه لا يستطيع السيطرة على توتره وخجله المزمن، وأحيانًا قد يسبب الاضطراب بعض المشكلات الجسدية، مثل الدوار ومشكلات المعدة وضيق التنفس وغيرها. علمت حينها أن الأمر أكبر من الخجل أو التوتر العادي، إنما انا أعاني من الرهاب الاجتماعي.

مشاهد من حياة المصاب بالرهاب الاجتماعي

أهلاً بك في حياة المصاب بالرهاب الاجتماعي، حيث يتوج القلق والتوتر والتردد كل مواقف ولحظات حياتك، حتى تلك التي يعتبرها الجميع عادية، أصبحت تشكل ضغطًا عصبيًا على حياتك، تأخذك من منطقة راحتك وتضعك على حافة الانهيار، لتصبح مأساة حياتك التي لا تعرف كيف وإلى أين يمكن أن تفر هاربًا منها دون رجعة، وإن حاولت مقاومتها أو الهروب منها تجدها تحيط بك من كل ناحية، لتشعر وكأنها تكاد تخنقك، فلايسعك إلا الاستسلام والرضوخ لها، لتستمر المأساة كما بدأت.

سلسلة لا تنتهي من الاضطرابات والمواقف المأساوية التي تشكل فيلمًا واقعيًا تراجيديًا، يسمى حياة المصاب بالرهاب الاجتماعي.. إليك بعض منها لعلك تدرك حجم المأساة:

أشعر وكأني سأسقط مغشيًا عليّ عندما أجد نفسي محاطة بمجموعة من الغرباء، وما يزيد الطين بَلَّة هو محاولة أحدهم الحديث معي، أو عندما أجد أعينهم مسلطة عليّ، أتوتر بشدة وتزداد ضربات قلبي، يحمر وجهي وأشعر بالدوار، أحاول أن أستجمع قواي حتي لا أنهار باكية أو أفقد وعيي، ولكن هذا لا ينجح دائمًا، إنما غالبًا ما ينتهي الأمر بمأساة جديدة!.

ينضب شغفي تجاه الأشياء أسرع مما قد تتخيل، فأحيانًا يقتلني التفكير حول عدد الأيام التي قضيتها دون ونيس، حتى اكتست حياتي بحُلَّة الكآبة والوحدة، ثم تروقني فكرة الاستمتاع رفقة الأصدقاء، أقضي ليلتي أفكر بحماس في لحظاتنا السعيدة التي سنسرقها معًا، ثم أذهب إلى فراشي ظنًا مني أن هذا الشعور سيستمر، ولكن هيهات! فما أن يأتي الصباح أشعر وكأن الأمر صار يطبق على أنفاسي، بعد أن ظننته الملاذ الوحيد للهروب من وحدتي، يقفز في عقلي مئات السيناريوهات المحبطة التي ستفسد يومي، أفكر في مئات الحجج لأفسد الأمر، وما أن يخرب تمامًا أعود لوحدتي، لأعيد الكَرّة ألف مرة.

أفكر في مراسلة أحد الأصدقاء القدامى أو بدء صداقة جديدة، أتحمس كثيرًا، ثم فجأة أجد مئات الهواجس تقفز في عقلي دون استئذان، لتربكني وتجعلني أخشى القيام بالأمر، بعد أن كنت أحترق شوقًا لفعله. مئات التساؤلات تعبث في عقلي، ماذا إن كان هذا الشخص لا يستلطفني؟ هل هو متحمس لبدء صداقة جديدة؟ هل يعتبرني متطفلة إن سألته عن أحواله؟ ولا تتركني سوى عندما ينطفئ حماسي وأعدل عن قراري”.

الوجود وسط الجموع أو في المناسبات الاجتماعية صار كالكابوس الحي الذي لا أستطيع الاستيقاظ منه. أشعر بالاختناق في تلك المواقف، لذا أحاول تجنب الاختلاط وأنطوي في إحدى الزوايا غير المرئية، أتجنب الحديث أو عرض وجهات نظري لأني أخشى أن يراني البعض ساذجة أو ثقيلة الظل، أو يقلل من آرائي، ويكلفني ذلك إحراجًا ذاتيًا أو يعرضني للانتقاد. نفدت قائمة الحجج التي أستعين بها للفرار أو أصبحت مبتذلة للحد الذي لا يصدقها أحد.

القلق هو صديقي الوحيد الذي أتمنى أن يحالفني الحظ لخسارته يومًا ما، يرافقني في كل خطواتي ويدحض كل محاولاتي لكي أحيا بصورة طبيعية. أشعر وكأنه يزاحم عقلي في كل مرة أقرر أن أخطو خطوة جديدة نحو الأمام، ليعيدني ألف خطوة للوراء، أشعر بالحماس يغمرني من كل ناحية في بداية الأمر، ثم سرعان ما يفرغ مخزون الحماس، ويحل محله الخوف والقلق المزمن، والرغبة في الهروب وإنهاء كل شيء”.

التوتر والتردد وجهان لمعاناة واحدة، كلاهما قد يدفع بك إلى الفشل أو الخسارة، هل جربت شعور التوتر وعدم الارتياح في موقف معين حتى شعرت وكأنك ستسقط مغشيًا عليك؟ هل أحسست بالتردد القاسي في كل خطوة تفعلها في حياتك، حتى وإن كانت مجرد شراء معطف جديد أو كتابة منشور على فيسبوك؟ تخيل أن يكون هذا نمط حياتك اليومي في كل شيء، صدقني لن تكون مسرورًا أبدًا.

أتعرف ماذا يمثل لي الليل؟ آلة زمنية لاسترجاع الذكريات الحزينة التي لم يسر فيها الأمر مثلما أردت، أفكر في كم شخصًا خسرت وصداقة انتهت قبل أن تبدأ، كم قرارًا أجلته للغد ولم يأت نهار الغد أبدًا، كم ليلة قضيتها متسائلة إن كانت الخطوة التي اتخذتها بكامل إرادتي صحيحة أم لا، كم خطوة رجعت للوراء لأني خشيت شبح ما سيقوله الناس، كم مرة اضطررت إلى تبرير موقفي رغم أنني لم أكن المخطئة، ولكن نوبات غضبي المفاجئة دائمًا ما تكون دافعًا ليستغلها البعض ضدي ويصدق البعض الآخر ما ليس بي، كم مرة بكيت عندما شعرت بأنني لم ولن أصبح الطرف الأكثر تميزًا في أي موقف وقصة، لو عرفت ربما لن تصدق، وإن صدقت ستُصدم، وإن صُدمت سترؤف لحالي، ثم ترمقني بنظرة التعاطف التي أعرفها جيدًا، وأكرهها بقدر كرهي لكل هذا.

لا أستطيع الإفصاح عن مشاعري ولا تفسيرر تقلباتها، لا أعرف كيف أفسر مشاعر القلق والتوتر التي تفسد كل شيء وأنا في غمرة سعادتي، ولا كيف أتلعثم ثم أفقد النطق فجأة وأنا في وسط حديثي من شدة توتري، كيف أخبرهم عن نوبات الغضب والعصبية المفرطة التي تأتيني فجأة دون مقدمات ولا أستطيع السيطرة عليها؟ هل سيفهمون كيف أعاني الوحدة وأنا وسط الجموع؟ هل يعلمون أنني أبذل قصارى جهدي لأتغلب على كل هذا، ورغم ذلك لا يسير الأمر كثيرًا مثلما أردت؟ سيعتقدون أنني أبالغ أو أهول الأمر، سيحاول بعضهم ادعاء التعاطف وطرح بعض الحلول المنطقية التي لن تجدي نفعًا، أما الآخرون فسيكتفون بنظرة مستنكرة أو ساخرة”.

علاج الرهاب الاجتماعي

رغم محاصرة تلك الاضطرابات لي من كل الاتجاهات، فإنني سعيت وما زلت أسعى بكل ما أوتيت من قوة، للتخلص منها، ووصلت في النهاية إلى عدة حلول، من غمرة تجاربي التي فشلت مئات المرات، ونجحت مرة، ولكنها بألف مرة، وساعدتني لأتحسن، ولعلها تكون طوق النجاة لك أيضًا.

  • أولى خطوات التغلب على أي مشكلة هي الاعتراف بها؛ واجه ذاتك ولا تقضِ أوقاتك تُعدِّد أسباب اضطرابك، إنما فكر في كيف تتغلب عليه.
  • الخوف لا يولد سوى الهزيمة، إن انتصرت عليه انتصرت على كل شيء. المشاركة في الأنشطة التي تتطلب التعامل بشكل مباشر مع الأشخاص كان لها مفعول السحر في التغلب على شبح الخوف وزيادة ثقتي بنفسي، الأمر كان يبدو مستحيلاً في البداية، ولكنه شيئًا فشيئًا صار علاجًا فعالاً.
  • لا أتردد في طلب المساعدة إن شعرت بأي عرض من أعراض الاضطراب الاجتماعي، من شخص قريب مني، فالدعم سلاح لا يمكن الاستهانة به.
  • أدون كل موقف أتغلب فيه على اضطراباتي، حتى أصبحت لدي قائمة إنجازات حياتية أتحمس كل يوم لإضافة المزيد لها.
  • أحاول ترتيب أفكاري وآرائي وكتابة النقاط الرئيسية لتكون منظمة وواضحة، ثم ألتقط أنفاسي وأشارك بها.
  • وأخيرًا أكتب، فالكتابة تساعدني على تدعيم شخصيتي وإبراز مشاعري وآرائي مهما كانت، دون خوف ولا شك.

وبالرغم من أن تلك الاضطرابات ما زالت تزورني بين الحين والآخر، فإن حالتي تحسنت كثيرًا وأتمنى أن تستمر محاولاتي للتحسن حتى أتغلب على شبح الرهاب الاجتماعي، وأعيش الحياة الهادئة المستقرة التي لم أعشها يومًا.

المقالة السابقةكيفية التعامل مع الزوج العنيف والعصبي
المقالة القادمةحماية الأطفال من العنف: التأهيل النفسي للطفل المعنف
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا