إن أخطر ما يحمله الناجون من العنف بكل أشكاله، هو الأثر النفسي الذي يمتد ليشوه مستقبل هؤلاء الأطفال، لذلك قامت منظمة اليونيسف بعمل حملة لـ حماية الطفل من العنف. وواحدة من أفضل الروايات التي جسدت حقيقة العنف ضد الأطفال، ودور اليونيسف في حماية هؤلاء الأطفال هي رواية الطريق الطويل (مذكرات صبي مجند). تحكي قصة “إشمائيل”، طفل تعرض لكل أنواع الانتهاك النفسي والجسدي خلال الحرب الأهلية في سيراليون، وفي خضم هذه الحرب، كان الأطفال هم أولى ضحايا هذا الصراع.
يقول إشمائيل: لم أستطع أن أشعر بسعادة كاملة. كان البقاء في حالة حزن أسهل كثيرًا من الانتقال ذهابًا وإيابًا بين الانفعالات المتباينة
كل ما يمر به الأطفال صغارًا له تأثير على حياتهم المستقبلية. تقول إحصاءات اليونيسيف إن حروب العالم قتلت مليون طفل ويتمت مثلهم، وأصابت 4.5 ملايين بالإعاقة، وشردت 12 مليونًا. وعرَّضت 10 ملايين للاكتئاب والصدمات النفسية. في دراسة قامت بها منظمة الصحة العالمية لحماية الطفل من العنف، تؤكد أن الأطفال المعنفين يعانون من أعراض تلازمهم مدى الحياة، حيث:
- يضعف النمو العقلي والجهاز العصبي، مما يؤدي إلى ضعف التحصيل الدراسي.
- في محاولة من هؤلاء الأطفال للتكيف مع الظروف المحيطة، فإنهم يلجؤون إلى السلوكيات الخاطئة، مثل: التدخين وإدمان الكحول والمخدرات، والانخراط في سلوك جنسي شديد الخطورة.
- تكثر لديهم أعراض الاكتئاب والرغبة في الانتحار.
نفسية الطفل المعنف
في حوار مع أخصائية الصحة النفسية وتعديل السلوك “راغدة موافي”، تقول عن نفسية الطفل المعنف:
إن أثر العنف على الطفل يجعله يتجه إلى أحد النقيضين. كمثال: الطفل الذي يتعرض لعنف لفظي، قد يصبح متنمرًا أو ضحية، ولا مجال لكونه شخصية متزنة تقف في المنتصف. ذلك لأن الحيل الدفاعية التي يمارسها للتكيف، هي أن يجد شخصًا أضعف منه يمارس عليه التنمر الذي لا يستطيع إيقافه مع من هو أكبر منه، أو يكون ضحية، ويخبر نفسه أنه ضعيف ويستحق هذه المعاملة فيستسلم للتنمر.
أكدت “راغدة” على مفهوم “الصلابة النفسية”، فقد يتعرض أخوان لنفس النوع من التربية، ولكن استجابة كل منهما تختلف حسب صلابته النفسية، وقدرته على مواجهة الظروف الصعبة، أو ما يتعرض له من عنف، وذلك حسب الشخصية التي ولد بها، فالبعض يخلق بشخصية أكثر حساسية تجاه العالم والأحداث، وبالتالي فهم الأكثر تأثرًا عند مواجهة العنف.
التأهيل النفسي للطفل المعنف والطفل العنيف
1. توعية الطفل بالعنف
“إن أولى الخطوات وأهمها هي توعية الطفل نفسه، أن يدرك مفهوم العنف وأنواعه، فالبعض لا يعي هذا المفهوم أصلاً، ولا يدرك أنه يتعرض لعنف يؤثر على سلوكه ونفسيته بشكل عام، أو العكس، فلا يدرك أصلاً أنه هو نفسه يمارس العنف على زملائه”.
2. فصل الداعمين
في المرحلة التالية فصل الداعمين -الذين يدعمون المتنمر مثلاً في تنمره- إذ أن الشخص المتنمر أو العنيف، دائمًا ما يحتاج لمن يدعم فعله، لذلك يجب أن نعمل على هؤلاء الداعمين، لفصلهم عن الشخص المتنمر أو العنيف، وتوعيتهم بخطورة دعم هذا النوع من السلوك، فيصبح المتنمر وحيدًا بلا داعمين.
3. كسر دائرة العنف
عند مواجهة العنف الأسري، فإننا نبحث عن الشخص المؤثر في البيت، لدعم الطفل في التأهيل، الشخص الذي بيده مفاتيح كل شيء، والذي ليس بالضرورة أن يكون الأب، حتى لو كان الشخص المؤثر هو المُعَنِّف نفسه. فبعض المُعَنِفِين يحتاجون فقط إلى التوجيه. تقول راغدة: “لقد رأيت وتعاملت مع حالات أتت بنتائج ناجحة جدًا، لم يدرك فيها الشخص العنيف أنه عنيف، نتيجة أنه تربى على هذا النوع من السلوك، فلم يعرف غيره، وبالتالي مع التوعية والمتابعة وتعديل السلوك، تغير هذا الأمر في تعامله مع أبنائه”. وهذا ما يسمى بكسر دائرة العنف.
غياب دور المؤسسات في مصر
ماذا يحدث إذا رفض الشخص العنيف في الأسرة أن يتوقف عن عنفه؟
تقول “راغدة”: “هنا تكمن المشكلة، لأن مصر ليس بها مؤسسات تحمي الطفل من هذا العنف، مما يشعرني بالعجز؛ فأنا كفرد لن أستطيع فعل شيء، فالأمر أكبر مني، ونظرًا لأني أعمل في بيئة مدرسية، فكل ما أستطيع فعله هو أن أوفر له بيئة مدرسية آمنة، تعوضه عما يحدث في البيت، لحين يصل إلى السن التي يستطيع فيها أن يوقف العنف بنفسه.
ليس لي في مصر -للأسف- هذا النوع من السلطة على غرار بعض الدول الأخرى، فقد يخاف أولياء الأمور أنفسهم من سلطة الأخصائي النفسي أو الاجتماعي، لأنه في بعض الأحيان قد يصل الأمر إلى سحب الأطفال من حضانة الأبوين حفاظًا عليهم.
حماية الطفل من العنف
حسب الحديث مع نائبة البرلمان “أميرة صابر“، عن قوانين حماية الطفل، أكدت: ليست المشكلة إطلاقًا في وجود قوانين حماية الطفل، لأنها موجودة بالفعل، لكن تكمن المشكلة الحقيقية في التحايل على تطبيقها، وغياب الوعي الجمعي. بمعنى آخر حين تتحدث عن قضايا العنف ضد الأطفال، يكون الرد دائمًا “أنا أربي ابني”.
وأشارت أيضًا إلى أن:
1. الوعي الجمعي يؤثر بشكل كبير على مناهضة العنف، أن تقوم الجارة وتزجر جارتها التي تمارس العنف على أبنائها، أن توجد بالأساس ثقافة أن يقوم المجتمع بأخد رد فعل والبعد عن ردود الأفعال السلبية.
2. التعليم، أن يعرف الطفل حقوقه وواجباته، أن يدرك مفهوم التعدي على حقوقه، وكيف يعمل على وقف العنف الذي يتعرض له.
3. المشكلة ليست قانونية، ولكنها مشكلة تطبيق. خصوصًا أن الأوضاع الحالية لا تسمح للمجتمع المدني بالمراقبة، أو التدخل في الحوكمة، فكل شيء يترك للظرف. وقد تعاملتُ مع كوارث حقيقية كأم تقتل أبنائها حرفيًا لأنها تعاني من اكتئاب، وبسبب تعاطف الأهل فلا يأخذون منها الأطفال. ويغضون الطرف عن السياق الاجتماعي الذي يعيشه هؤلاء الأطفال.
4. خلل الموازنة، العنف يمارس في البيت، المدارس، الشارع، لأن المربي هو نفسه الذي يمارس العنف، فمهما كانت فلسفة القانون مكتوبة بقوة، فهي لن تواجه ثقافة مهترئة ضعيفة.
5. في برنامجي كانت مبادرة “شارع آمن” مخصصة لحماية المرأة والأطفال من العنف، وشملت أنواعًا من العنف لم يلتفت إليها أحد أو يناقشها. فالولادة القيصيرية بدون داعٍ هي عنف ضد الطفل وضد المرأة، فهو يُحرم من حقه الطبيعي في الحصول على الميكروبيوتا التي تعطيه المناعة. كذلك الفطام المبكر وحرمان الطفل من ملامسة الجلد للجلد، فهذا نوع من أنواع العنف. وعندما تجبر الأم على النزول في عمل خاص بعد الولادة، هذا أيضًا عنف ضد المرأة وضد الطفل نفسه. ففكرة العنف ضد الطفل ليست منفصلة عن العنف ضد الأم، خصوصًا في السنوات الأولى من عمره التي يحتاج فيها للرعاية الكاملة. فالسنوات الأولى الثلاث للطفل، يترتب عليها ما يقرب من 80% من وعيهم، سيكلوجيتهم وبنائهم الإنساني، لذلك يطلق عليها “السنوات الذهبية”.
يقول د. أحمد خالد توفيق في مقال “الأكسجين والشمعة”:
أنا أؤمن أن الأطفال يجب أن يجذبوا ذيول القطط ويصنعوا كعكًا من الوحل، ويجب أن ينعموا بطفولة سخية كاملة، حتى لو كانوا موهوبين جدًا، فليفعلوا هذه الأمور جوار موهبتهم.
سياق الحديث كان عن الأطفال الموهوبين الذين لا ينعمون بطفولتهم نتيجة الضغط المستمر من قبل الأبوين، فتتحول طفولتهم لجحيم نتيجة أنانية الأبوين، وهو ما يعد نوعًا من أنواع العنف ضد الأطفال.
إن حماية الطفل من العنف بكل أشكاله، تستوجب وعيًا جمعيًا. ونشرًا لهذه الثقافة من قبل جميع مؤسسات الدولة الرسمية وغير الرسمية من مؤسسات المجتمع المدني. حتى نتمكن من تطبيق القوانين، ومناهضة العنف ضد الأطفال.