كتب: سلمى محمود
هل شعرت من قبل بالسوء وأنت تمارس أحد المشاعر الإنسانية؟ لا أقصد الشعور ذاته إنما الكيفية التي تمارسه بها. هل اعترتك نوبات هي مزيج مُعقد من خيبة الأمل والإحباط وأحيانًا تصل إلى الشفقة على حالك، لمجرد أن طريقة ممارستك لهذا الشعور تختلف عن قواعد الآخرين وطريقتهم؟ هل أخجلتك نظراتهم التي بدت كأنها سهام تخترق جسدك وشعرت معها كأنك منبوذ، مضطرب، غريب عن هذا العالم وكأنك فُقدت من مركبة فضائية تبعد مئات الأميال ولم تجد طريقًا للعودة بعد، لمجرد أنك تفعل ما يُناسبك وإن كان مُختلفًا قليلاً عن قواعدهم؟
هذا الاختلاف الذي كانوا يتغنون به يومًا، وعلى استعداد لدفع كل ما يملكون لأجل لحظة يشعرون فيها أنهم مُختلفون وإن كانت لحظية، زائفة، أصبح الجميع يهرب منه الآن، وكأنه وحش قبيح الوجه لا يتجرؤون حتى على مجرد النظر إليه. هل حاولت التراجع عن اختلافك ومسايرة قواعدهم لربما يجعلك هذا تنغمس في حياتهم، ولكن لم يفلح الأمر أيضًا وبدلاً من الشعور بالرضا أصبحت كأنك عالق في غرفة مظلمة، ضيقة، محاصر بملايين النُسخ التي تمارس الشعور ذاته بطريقة موحدة وضع قواعدها شخص ما من وراء الأبواب المغلقة دون أي طريق للعودة، وكأنك في كابوس أو بإحدى حلقات مسلسل بلاك ميرور؟!
إن خطرت على بالك تلك الأفكار يومًا فبالتأكيد هناك من نظر إليك وعلى وجهه علامات من الاستهجان والريبة، ودار في عقله مئات الأسئلة، يتمنى لو امتلك الجرأة ليطرحها عليك، ولكنه اكتفى بتلك النظرة على وجهه التي توحي بقبوله لأفكارك، وإن كان أبعد ما يكون عن ذلك. أتمنى لو تتاح لك فرصة لقائهم مرة أخرى يا صديقي، ليعلموا أنك كنت على حق وهم المخطئون. أما إن لم تفعل بل ولم تفهم من حديثي هذا شيئًا واعتبرته مجرد ترهات لا هدف منها، فانتظر هنا، فالإجابات ستأتيك، ولكني لا أظن أنها ستسُرك، بل ستفتح لك أبوابًا ربمًا لم تفكر يومًا في الاقتراب منها.
أهلاً بك في عالمنا الحالي، عصر السوشيال ميديا، حيث لم يعد الشخص يمارس الشعور الإنساني حسب طريقته الخاصة، وبناء على الموقف الذي يستدعي مُمارسة هذا الشعور، ولا يلقي بالاً سوى إلى ما يرضيه ويجعله مرتاحًا، إنما أصبح الشعور يتحدد حسب “الترند” بينما يحدد لك “بما وكيف تشعر”، بعض الأشخاص ممن يجلسون خارج الأبواب المغلقة ويطلقون على أنفسهم لقب “الأنفلونسرز”، وهي وظيفة حديثة من إفرازات السوشيال ميديا لا تحتاج فيها سوى إلى هاتف بكاميرا جيدة وعدد لا بأس به من المتابعين وحس فكاهي. يمكنك الاستغناء عن هذا الشرط في حال كنت تملك درجة لا بأس بها من الجمال.
كيف يحدث الأمر؟ البداية تكون هكذا دائمًا: تجربة شخصية يقصها “الأنفلونسر” من وراء هاتفه على متابعيه، شيئًا فشيئًا يبدأ في مشاركتهم تفاصيل أكثر، رأيه في منتج معين، أو تجربته في مطعم ما مثلاً، إلى كل تفاصيل حياته ومشاعره الخاصة، سرعان ما يصبح لديه جيش من النُسخ التي تحاول استنساخ كل شيء يخصه، ليجلس هو خلف شاشته يراقبهم، وكأنه يمنحهم تقييمًا خاصًا يتحدد حسب درجة تحولهم إلى تلك النسخ معدومة الهوية، وكلما كان التحول مطابقًا حصلت على تقييم مرتفع. الأمر أصبح شبيهًا بتلك الحلقة من مسلسل بلاك ميرور (nosedive) والتي ركزت على قيام الأشخاص بالتصرف طبقًا لطريقة مُعينة، بصرف النظر إن كانت تلك الطريقة تُناسبهم أم لا فقط للحصول على تقييم مُرتفع.
توحيد المشاعر وتحويلها إلى سلعة وإلقاء فردانية المشاعر وكونها نتاج خبرات ومعايير تختلف من شخص لآخر، ووضع شكل موحد لكل شعور إنساني، مُدعم بعدد من الاشتراطات لا يجب للفرد أن يحيد عنها ولا يضيف جديدًا لها، بالإضافة إلى تنحية الأهواء والمشاعر الخاصة جانبًا، والسير وفق ما وضع في “كتيب إرشادات المشاعر” المزعوم، وتنفيذ خطواته بحذافيرها، بالنسبة لي أسوأ ما فعلته السوشيال ميديا، التي نجحت في تحويل المشاعر من شيء حلو، مُختلف، يكتسب تميزه من تجارب ومواقف الآخرين، إلى شيء مشوه ومُزيف وصوري، أشبه بالنشرة المُصاحبة للعلاجات الطبية المملوءة بالإرشادات، والتي على الجميع الالتزام بها، لتجنب الأعراض الجانبية. وفي حالتنا تلك سيكون الطرد من نعيم السوشيال ميديا والتقييم المنخفض.
إليك مانفيستو من “كتيب إرشادات المشاعر” ربما يُفيدك، فالسعادة في السفر، حتى وإن كُنت تفضل البقاء في غرفتك تشاهد نتفليكس، يجب أن تُلقي بأهوائك الخاصة تلك جانبًا وتحزم أمتعتك وتجوب العالم، أما الحب الحقيقي فوراءه دائمًا قِصص مُؤلمة، عصيبة كتلك التي تمر أمام أعيننا يوميًا على صفحات فيسبوك، وتجذب أعين المراهقين، إما هذا وإما عليك أن تراجع قصتك البائسة تلك. الرضا يتلخص في وظيفة جيدة تثبتِ فيها نفسك وتحققِ أحلامك، إن كنتِ من أنصار البقاء في المنزل فلن تعرفي شعور الرضا هذا في حياتك قِط. الراحة في لمة الأصدقاء والخروجات الليلية المُتأخرة، إن كُنت منطويًا تفضل البقاء نائمًا طوال اليوم في منزلك فاحذر من انخفاض تقييمك قريبًا. فيلم مُعقد، سوداوي، كئيب هذه هي السينما وهذا هو شعور الاستمتاع، فلتذهب أفلام مارفل التي تُفضلها إلى الجحيم. إن أصابك شعور الحُزن عليك أن تملأ الدنيا صراخًا وضجيجًا لا أن تنعزل في غرفتك وتبتعد عن البشر، هذا مُخالف لما حُدد في كتيب الإرشادات، النجاح، الرضا، الإنجاز…”. لكل منهم صفحة مُخصصة في كتالوج المشاعر، قبل أن تفكر في ممارسة أي شعور إنساني منها، عليك تصفح الكتيب جيدًا ثم تطبيق الإرشادات المُحددة لهذا الشعور، كما هي دون تجويد أو تحريف.
تشعر بأن الأمر أصبح مألوفًا الآن؟ بالتأكيد مُررت به يومًا، لكن لا تقلق يا عزيزي، لست وحدك من عَلِقت في هذا، فكلنا أصبحنا محاصرين في تلك البقعة السوداء ولا نعرف للخروج بابًا، ربما حتى لم نحاول أن نجد مخرجًا منها، أعجبنا الأمر أو اعتدنا عليه لا أعرف، لكن ما أعرفه أن دائمًا هناك طريقًا للعودة، فقط عليك أن تقرر ماذا تريد وأي طريق ستسلك، إما أن تُلقي بقواعدهم وتقييماتهم هذه خلف ظهرك وتمارس مشاعرك بالطريقة التي تريدها وتُفضلها، أو تستمر في مسلسل الادعاء هذا وتتابع عملية تحولك إلى نُسخة واهية دون أي مقاومة، حتى تبتلعك الهالة مثلهم وتدخل النفق المُظلم دون أي طريق للعودة.. الأمر لك عزيزي. فقط عليك الاختيار.
اقرأ أيضًا: هل تسبب مواقع التواصل الاجتماعي التروما