كيف أنقذني التعلم من الاكتئاب

1695

قصاصة صغيرة ملقاة على رصيف المترو، لفتت نظري دون المئات الواقفين، انحنيت والتقطها، كانت صغيرة جدًا ومطوية بعناية ولا أدري حتى الآن لماذا لفتت نظري أصلاً، فضضتها بحماس، لأجد سؤالاً صادمًا مكتوبًا بخط منمق: “هتكون فين بعد خمس سنين”، كان السؤال مرعبًا جدًا بالنسبة لي.. هذه الرسالة لي أنا دون غيري، هذه الرسالة مخيفة جدًا. عليَّ أن أبدأ التعلم الآن.

المستقبل المظلم

بعض المهن بلا مستقبل، مهما بدت محفزة وحماسية، تبقى عقب بعض التفكير في أمرها بلا أمل في الحقيقة، مهنتي واحدة من تلك المهن. لم ألحظ هذا من قبل، أنني أدور في دائرة مفرغة، لكن هذه الورقة نبَّهتني، فحين فكرت أين سأكون بعد خمس سنوات وجدتني سأكون محظوظة إن كنت لا أزال في مكاني.

منذ طفولتي وأنا أحلم أن أكون صحفية، حققت ما أحلم به لكن الحلم توقف عند مرحلة معينة، أصبحت صحفية، وماذا بعد؟

صناعة تنهار

ليس ثمة تسلسل وظيفي محدد وواضح في مهنتي، المسألة كلها خاضعة للتقديرات والاجتهادات والحظوظ. سبع سنوات وأنا على ذات المقعد أمارس ذات الوظيفة، عبر نفس جهاز الكومبيوتر، ليس ثمة تغيير يُذكر سوى الإحباط، الذي راح يتسرب إلى نفسي وجعلني أتساءل: هل الأشياء التي نحلم بها ستسعدنا حقًا حين تتحقق؟ هل أضعت مستقبلي لأنني حلمت حلمًا في طفولتي؟ ماذا لو كنت في مجال آخر؟! هل كنت لأحرز إنجازًا يحفظ ماء وجهي أمام نفسي؟

ازدادت المأساة مع ما تواجهه صناعة الصحافة من انهيار، يدفع المواقع والصحف للتخلي عن صحفييها والتحفظ في ضم المزيد، بل أن ثمة تحذيرات راحت تنتشر بشأن الالتحاق بكلية الإعلام، قال أصحابها صراحة: “متدخلوهاش مفيش شغل”.

من أين أبدأ؟

قليل من الصراحة مع نفسي جعلني أدرك أنني وصلت إلى طريق مسدود، بينما عمري 30 عامًا، وأن عليَّ البدء من جديد إن كنت أرغب في مستقبل أفضل، عليَّ أن أبدأ التعلم فورًا، لكن من أين أبدأ؟

الحقيقة الأكثر إيلامًا أنني لم أعد أعرف من أين أبدأ، لا فكرة لديَّ ولا تصور، لكن الأكيد أنه ينقصني الكثير. هكذا بدأت رحلتي مع اللغة الإنجليزية، كنت حامل في شهري السادس، حين التحقت بالمستوى الرابع في مركز لغة شهير، لم أكن أعرف ما الذي يمكن أن أفعله بما أدرس، لكنه كان كالقشة بالنسبة لي التي قد تنقذني من الغرق، أن أتعلم شيئًا جديدًا يعطيني عزاء وأملاً في أنني ما زلت على قيد الحياة، ويمكنني البدء من جديد يومًا ما.

شهر تلو الآخر، التزمت خلاله تجاه نفسي وواظبت على الحضور، حتى شهري التاسع في الحمل، حيث وصلت إلى المستوى السابع من إجمالي 12 مستوى. كان هذا أمرًا جللاً بالنسبة لي، لكنني في الوقت نفسه ظللت حائرة بشأن الخطوة التالية.

بكاء ورعب

اكتملت حيرتي عقب ولادتي، حيث اكتشفت أنني علقت في مرحلة صعبة، سيكون عليَّ خلالها الاعتناء بطفلين والمكوث بالمنزل، حيث لا شيء يمكنني عمله سوى البكاء على ما فات، والرعب مما هو قادم، مستقبل بلا ملامح. دفعني هذا لأن أحمل طفلتي الرضيعة وأسارع إلى المركز، لأسألهم عن إمكانية حضوري بصحبة رضيعتي، وكانت الإجابة “لا بأس”.

أسعدني هذا وانضممت إلى المستوى الثامن، في هذه الأثناء وفِّقت في الالتحاق بدورة مجانية في مجال البيانات، تختار عددًا محدودًا جدًا من الصحفيين والباحثين، جازفت وتقدمت للمقابلة الشخصية، وتم قبولي، وسألت أيضًا عن إمكانية حضور رضيعتي معي، فوافقوا فورًا، لألتحق عقب كورس اللغة بمدرسة البيانات التي أضافت لي الكثير.

التعلم

لا أمل لربات البيوت

شيء ما ظل ناقصًا، كلما نظرت إلى قائمة أحلامي بشأن 2019 يلاحقني الإحباط، حيث أهم هدفين لم يتحققا، الحصول على رخصة قيادة، وتعلم قيادة السيارات فعليًا، تحدٍّ كبير بالنسبة لي وسط الكثير ممن يخبرونني دومًا، أنني لن أتمكن يومًا من قيادة السيارة، وأن التعلم ليس لأمثالي من ربات البيوت.

هكذا توجهت إلى مدرسة المرور، حيث حصلت على رخصة القيادة عقب تدريب استمر لأسبوع، دون واسطة، واستخرجت رخصتي التي ما زلت أشعر بالفخر كلما نظرت إليها، ثم توجهت إلى مدرسة خاصة بالسيارات في محيطي، وتعلمت القيادة أخيرًا. في تلك اللحظة أصبحت مستعدة لأن أودع 2019.

لكن الصورة ليست وردية جدًا، في وسط هذا كله كنت أعيش مأساة الشعور بالذنب، كيف أحمل طفلتي في حر أغسطس وأنتقل من كورس هنا إلى مدرسة هناك؟! لماذا على هذه الصغيرة التي لم تكمل شهورها الأولى بعد أن تحتمل النار المتقدة في صدر أمها؟!

اقرأ أيضًا: مشاعر الذنب التي تأكل الأمهات

البطلة المجرمة

“غطِّي دماغها”، سمعتها غير مرة وأنا أنتقل بين مكان لآخر، فتأتيني النصيحة المجانية من المارة “حرام عليكي!”. المسألة محيرة حقًا، هل كان الأفضل أن أمكث في البيت وأستسلم لاكتئاب ما بعد الولادة، أم أحاول الفكاك عبر شيء أحبه أسفل نيران شمس أغسطس؟!

ليس ثمة متعة كاملة، أنا بطلة في نظر نفسي ومجرمة أيضًا، أحاول الفكاك من حالة نفسية يمكنها أن تعصف بي وتعتصرني دون أمل، وأرهق صغيرتي في الوقت نفسه، كما أقتطع من وقت ابني الذي اضطر في بعض الأيام إلى المكوث ساعات طويلة من دوني.

أيهما أفضل؟ لا أدري، لكن الأكيد أنني ما زلت لا أملك صورة اضحة عما يمكنني فعله مستقبلاً، أواصل التعلم في أمور لا أعلم عنها شيئًا ولم يسبق لي الاحتكاك بها، وفي الوقت ذاته أتوق لأن أعثر على أمر يثير شغفي، ويجعلني أقرر من أين سأبدأ حين يتسنى لي الوقت للبدء فعليًا.

هدية السماء

لم يكن عيد مولدي هذا العام سعيدًا على الإطلاق، كان عامرًا بالكثير من المواقف السيئة، والصدمات التي اختارت توقيتًا قاتلاً، لتعلن عن نفسها، كنت على وشك الدخول في نوبة اكتئاب عنيفة، لكن القدر كان رفيقًا جدًا بي، حيث جاءتني رسالة إلكترونية بالضبط في يوم مولدي تخبرني أنني فزت بمكان في ورشة يمكنني أن أتعلم خلالها أمرًا جديدًا، جعلني هذا أثب فوق الأرض وأضحك من قلبي لتدابير القدر وعنايته الفائقة بقلبي.

تعلم الأمور الجديدة يمنح شعورًا استثنائيًا بأن هناك عزاء، وأن الحياة ما تزال قادرة على الإمتاع، وإثارة الشغف والحماس، ثمة أناس جدد يمكن أن نقابلهم، باستثناء دوائرنا المغلقة، ثمة نجاحات صغيرة يمكننا إحرازها، أمور جديدة يمكننا أن نتعلمها، أمل جديد في مستقبل لا يعلمه سوى الله.

طبطب على روحك

التعلم شكل من أشكال الرفق بالنفس، تربيت على الكتف وهروب من الواقع القبيح، العقل لم يصدأ، كذلك القلب لم يفقد حماسه. تعلم الأمور الجديدة شكل من أشكال الوقاية من الاكتئاب، لكنه في حالتي كان اختبارًا قويًا لإنسانية عدد غير قليل ممن كان يمكنهم رفضي وإبقائي لأموت كمدًا في منزلي، لكنهم تقبلوني بما لديَّ من طفلة رضيعة، وظروف كانت محل احترام وتقدير. ما زلت أشعر بامتنان عميق لهم جميعًا في قلبي، وأمل في أن أتمكن من مواصلة التعلم، حيث إنه من الأمور القليلة التي تعطيني سببًا للبقاء على قيد الحياة.

المقالة السابقةالعنف ضد المرأة 2: حكايات مصرية
المقالة القادمةكتالوج المشاعر
كاتبة وصحفية مصرية

3 تعليقات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا