بقلم/ وفاء خيري
أكتب لك اليوم أيها الرجل ليس لأنني -مثل البعض- لا أجيد إلا الكتابة، فأنا أجيد أشياءً كثيرة وأنت تعلم ذلك، ولكن تظل الكتابة الوسيلة الأقرب إلى قلبي والأكثر قدرة على التعبير، لهذا اخترتها لتكون وسيلتي في إيصال ما أرغب.
لأبدأ حديثي عنك، بوصفك كما عرفتك أول مرة، ذاك الرجل الكافكاوي الديستويفسكي الغامض، الذي قد يكون الآن غاطًّا في النوم أو غارقًا في مشاهدة الوثائقيات أو سارحًا في ندوبه وعذاباته، بل وربما يكون هائمًا في أحد شوارع صنعاء. ويمكن ألا يفعل شيئًا مما ذكرته ويكون مستغرقًا في تأملاته أثناء جلوسه على أحد المقاهي يراقب المارة، وهذا ما اعتاده دائمًا.
لألغي صيغة المخاطبة بهذا الشكل وأتحدث إليك مباشرة، فهذا أقرب للنفس، وهذا ما أعنيه لأني أكتب لك أنت وحدك.
أتحدث عنك وأرى كم هو جميل أن يجتمع الإنسان بتوأم روحه في صدفة قدرية رائعة، ويهيمان في عالم جديد خاص بهما وحدهما، ويتشاركان أشياء لم يعلمها أحد عنهما. لنصنع نوعًا جديدًا من العلاقات، الذي ليس بالحب وليس بالصداقة التامة، بل هو خليط من العقل والعاطفة، الشغف والإيمان والجنون.
تعرفنا على بعضنا بعض، لن أقول صدفة، بل عن عمد، رغبت في سبر أغوار ذاك الرجل، المنزوي وراء شاشة هاتفه، بعيدًا، والذي يتحدث عما يجول بخاطره دون مجاملة أو حساب لأحد، والذي لم يفكر أن يخوض جدالاً في إحدى المرات مع أي شخص، مهما كان محور الحديث مُهمًا بالنسبة إليه.
عرفتك، وبدأت الشخصية المتضجرة على الدوام في الوضوح، إلى أن تحدثنا، فتحنا كلامًا في السياسة والأدب، في العلاقات والعمل في الذكريات والأمل، ورأيت فِي طفلتك الصغيرة التي يمكنك أن تحاوطها بنصائحك وخبراتك، وتعلمها كيف تُعد نفسها للحياة والمستقبل، وأن تخبرها بأن تدرك ما تفعله وتستعد لعواقبه أيًا يكن، ويعلم الله كم تحاول أن تعلمها كيف تتجنب صدمات العالم القاسي الشرير، بما تقدمه لها من نصائح.
تكابدت عناء المحادثة مع شخص يرى أن العالم لم يعد مكانًا صالحًا للعيش، وأن الحياة قد أخذت منه أكثر مما يجب، ولأتباهى قليلًا بصبري وجدارة استحقاقي بصداقة كهذه، لأني احتملت في سبيلها الكثير، كم من المرات أرسل لك ولا ترد؟! أخاطبك وتخبرني بأنك متعب قليلاً! أنتظر تعليقك ولا أجد! وأصبر أنا وأتحمل، على أمل أن نبدأ محادثة جديدة في وقت لاحق، وغالبًا ما يذهب انتظاري سُدى.
كنت سعيدة، وما زلت، وهائمة بأن يكون لي صديق عمره ضعف عمري تمامًا، أتحدث معه عن جنوني وهفواتي، عن أحلامي ورغباتي عن كبريائي وضعفي، دون أي حرج في ذلك، ويرى في تلك الطفلة المليئة بالحياة والجنون، التي تضفي على حياته لمسة ذات طابع خاص، وكم حادثني بأنه فخور بي وأنه يتوقع لي مستقبلاً باهرًا، دائمًا ما وجدت فيه يد العون، واليد التي تُربت والقلب المصغي الوجس، الذي يخاف ويهتم ويقترب بلطف دون أن يؤلم أو يؤذي.
عشت معك إحدى لياليك الحزينة، لو تتذكر، نعم كنت بعيدة مكانًا وأتمنى لو كنت أقرب، كنت راغبة في أن أفعل أي شيء في سبيل إزاحة ذاك الحزن الهائل عن هذا الرجل، الذى أرى أنه يستحق أن يعيش في سكينة وهدوء داخلي، مهما فعل أو ظن أنه لا يستحق، حينها، فعلت ما بوسعي، وهو السهر في محادثة معك مليئة بحكاياتي التي قلبت حزنك رأسًا على عقب، كما سبق وأخبرتني.
جمعتنا مئات الدقائق وعشرات الساعات. تحدثنا طويلاً على الهاتف وفي وسائل التواصل الاجتماعي، حتى مللت منى في بعض الأحيان، جمعنا بين اللهفة والأمل وانتاب محادثاتنا الفتور أحيانًا، ولكن لم أمل منك أبدًا ولا أظنني سأفعل.
لا أجد مناسبة أو فرصة أعبر لك عن امتناني لك وعن مدى حبي لصداقتنا التي لم نعرف كيف ظهرت أو نشأت أو إلى أين ستذهب، تمنيت لو التقينا، تقابلنا، وتحدثنا عن الحياة، وتراني عن قرب، وترى كيف تتفاعل تلك المجنونة مع الأمور والأشياء من حولها، ستحبني أكثر وستراني عن قرب أكثر شبابًا وحيوية مما عرفت، أعدك بذلك، أتمنى لو أساعدك وأقدم لك أشياءً تحتاجها، أُعد لك بعض الطعام وأساعدك في إزالة الحزن الجاثم على صدرك، لكن لأنني بعيدة -ياللأسف- كل ما أستطيع أن أقدمه، بجانب دعواتي الطيبة، وأمنياتي السخية، أن أكتب لك، وأسلك سُبلاً لطمأنتك، وأخبرك أنك لست وحيدًا أو ضائعًا أو تائهًا، لست فاشلاً أو خاسرًا، أنت واهم بآلامك، وتعطيها أكبر من حجمها، لأنك حساس أكثر من اللازم، وطيب بقدر لا يستحقه كل من حولك، أقول لك أنا هنا، أمد لك يدي، وأخبرك، أن تحيا سعيدًا هادئًا ساكنًا مطمئنًا، فهناك في بقعة ما في هذا العالم، فتاة تتذكرك وتحبك، وتخبرك أنك أباها الثاني، ورفيقها الروحي، وأنها تتألم لتألمك، وتقدر وجودك بحق.
اقرأ أيضًا: رسالة إلى حبيبي ابن الكلب