رحلتي من آخر الشارع إلى ناصيته

969

بقلم: جهاد عصام

نصنع آمالنا، أحلامنا، سعادتنا، الذكريات أم تصنعها الطرقات التي نطأها، البيوت التي نسكنها؟!

العمر يكبر فينا في لمحة بصر لا ندركها إلا بعد سنوات.

يقولون: إن الأقوى من البطل، هو البطل الميت. فما الأجدر بالعيش، الخلود، الصورة أم الواقع؟! الذاكرة أم الذكريات ؟! الإنسان أم ما يصنعه؟! هل الإنسان هو فقط ما يُنتجه لجعل الحياة أكثر رحابة، جمالاً، سهولة، أم سيُحسب له رحمته وعطاؤه، ابتساماته، رقة قلبه؟

إذا تجردنا من هوياتنا، أسمائنا، صفاتنا، مظهرنا. ما الذي سيتبقى لنا لنكونه؟! الأرض تصنع أصحابها أم الأصحاب هم الذين يخلقون كيان الأرض ونسبها إليهم؟! لا يمكن للنهر أن يصب فى غير منبعه مهما تغيرت مساراته.

طفلتي الصغيرة آمنت بالعصا السحريةالذكريات السعيدةلم تدرك أن هنالك أشياء تجثو فوق القلب يمكنها قتل الروح بينما الجسد يمشى واثق الخطا ملكًا. كنت مراهقة بعد لم أفهم شيئًا غير أن الكل يصارع فى معركته.

العالم كان يدور رأسًا على عقب وكنت أدور حول نفسي لا آبه لشيء، آملة أن يومًا ما ستتفتح زهرة عمري وتُطلق فراشها ينشر الفرح والأمل.

الفراشة كي تصبح فراشة حرة تمر بمراحل الولادة من الشرنقة إلى اليرقة إلى تمام نموها الكامل.

الطريق تصنعه الخطوات الصغيرة المستمرة. فكيف لوثبة خفيفة أن تختصر طريقًا كاملاً؟! هل يمكنها ذلك أم أن السلم يجب أن تصعده درجة واحدة فقط تلو الأخرى؟

هل إن دفعَنا أحد من ورائنا فجأة تُحسب لنا هذه الوثبة؟

عجيب العجاب. كيف يمكن لبضعة أمتار أن تحدد مصيرًا، تُحوّل القلب اللين إلى حجر صلد؟!

الريف لم يعد ريفًا يا خالة. لم يعد ريفًا طيبًا أصيلاً، ولا صار ريفًا متمدنًا، بل ريف متدنٍ. كنت أستيقظ علي مرأى الطبيعة والحمَام الأبيض الذي يأسر قلبي، أما هنا بالكاد أرى حمامة أو فراشة كل زمن بعيد. كان جيراننا يملكون أزواجا رقيقة من الحمام تحملك ع ظهرها وتطير. أما هنا لا يوجد الجيران الطيبون، بل أناس يتصارعون للبقاء، يحمل كل واحد شعار الفردية ويهتف: نفسي نفسي.

الأبقار جفت وتلاشت، الزبد تخثر مثلما تخثر العمر وأصبح مياهًا عفنة. الينابيع سُدت من أجل الحضارة، لم يعد هناك أصداء كرات الزجاج المدعوةبِلىولا ركض بضحكات عالية. “الشبر شبرين” احترقت فى مكب النسيان. طُويتالنبلة” مثلما طوى الزمن الجدات.

تطورت أدوات الصيد، حتى الأرانب أصبحت تصطاد اللحم بدلاً من الجزر. الأطفال أو العفاريت يولدون بمهارة التكنولوجيا المفرطة. المراهقون تغربوا فى المولات والكافيهات. تلوثت دماؤنا بالحداثة.

بضعة أمتار فقط كانت إكسيرًا سقتني به ساحرة قلبها مشوب بالسواد، العمى. إكسير صغير بحجم بيضة بلدي كان كافيًا ليجعل عيني شاسعة، قاحلة. كافيًا لتنويمي وجعلي أُفلت ببالوني وحقيبة ألواني وذيل حصان شعري.

الخريف هو سِمتي، حارسي منذ أول نفْس لي على الأرض. ولدت فيه، وفيه أيضًًا غادرت مهجع أماني للأبد.

خدني من مدرستي ع الجامعة :: خدنى م الترعة على الأسفلت*

الفرق مؤلم، مفجع بين التراب والأسفلت. دموعي على التراب تنبت بذورًا تثبت جذوري، تزهر قطنًا يانعًا بينما دموعي على الأسفلت محض فراغ وسبب لانزلاق الحضارة.

“الأوفر سايز”، “التريندي” اغتالا أشجار التوت في حقولنا.

كنت أنام على صورة ثلاث نجمات تلمع في السماء.. أراها ممسكة أيادي بعضها.. تغني، ترقص. أما الآن بالكاد أرى نجمة وحيدة. النجوم هنا تشردت، تباعدت. الأعالي الأسمنتية كانت حاضرة آنذاك الزمن الجميل البعيد، لكن كانت هنالك فسحة للأمل، الخيال.

حزن يا بقال ورا الجامع :: هات بنص ريال عسل في الكوز

خد سنين الجري وسنيي :: هاتلي سن غزال دهب عيني

قطع الأسفلت شراييني :: هات بياض القطن شاش اللوز*

القطن الذي كنت أتخيله انقرض حتى من أحلامي.

بدلاً من الهدوء الممزوج بصوت القطار المستمر، صرت أنام على صوت نقيق السيارات القذر وهزات عربات النقل الكبيرة المتخمة بالطوب الأحمر تهدهدني بدلاً عن اليمامات في منور غرفتي.

انتهى صيف الطائرات الورقية المصنوعة يدويًا. اختفى الصيف من حياتي. الخفة والنشاط سمتان أنقذتاني آنذاك وما زال ضوأهما يلتقطني من غيابت الجب.

الخفة صاحب حسن ظننته يصادق الكل صغارًا وكبارًا إلى الأبد. لا أعرف هل كان الأمر هكذا فعلاً أم أن الطفل بوداعته يظن أنه طير حر، وأن الجميع مثله يحلقون بفرح في عالمهم؟

ما يُهوّن عليَّ أن السماء واحدة تتسع دائمًا لنا مهما باعدت بيننا الأرض وفرقتنا. لذا الأحلام لا تموت، الأصول الجذرية تبقى حيية في قلب أرضها مهما غزتها ونمت فوقها النباتات الشيطانية. دائمًا ما تكيف الجنس البشري. لا يمكننا الحصول على كل شيء في وقت واحد.

يجب أن نطوي الذكريات والماضي ونتقدم بشراع الحضارة إلى الأمام. دائمًا هناك مقابل. نتنازل كي نتطور ونصبح أقوى.

لكن هل سنتخلى عن قلبنا؟ إلى متى؟!

*الأبيات من أغنية سيرة الأراجوز لفرقة “عمدان نور”.

اقرأ أيضًا: قبل نهاية العالم بقليل

المقالة السابقةمن قلب الأزمة: مع محاولات التكيف كله بيعدي
المقالة القادمةفيروسات بيتوتية
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا