رسالة إلى ابنتي ورد

1304

بقلم: إسراء السليمان

ابنتي الجميلة ورد..

في البداية جاء حملك على غير رغبة مني، زارتني كل أعراض الحمل ولكني أنكرتها كلها، كيف أتقبلك وأنتِ بنظري المحدود حينها كنتِ عبئًا فوق عبأي الدراسة والبيت، زرت الطبيب لأشكو همًّا آخر، فكنتِ أنتِ! سبقتني دموعي ولا زلت لا أعلم هل كانت تلك دموع الفرحة أم حزن متوارٍ، قررت أن لا أدع لكِ فرصة لتعيقيني عن حياتي كما فعل أخيكِ، فكنت أتنقل بين المواصلات العامة في مدة تزيد على الساعتين لأصل إلى الكورس، كان جسدي لا يتحمل أن يحملك أنتِ وحقيبة اللاب توب التي تزن أضعافك حينها فى آن واحد، فاضطررت بأمر الطبيبة إلى الاستسلام لكِ ولتذهبن إلى الكورس أولئك اللواتي لا تحمل أجسادهن سوى حقيبة اللاب توب وهمِّ اختيار الثوب ولون طلاء أظافر أنيق، أما أنتِ يا طفلتي فأبيتِ إلا أن تتشبثي برحمي حتى النهاية.

جميلتي.. أنا آسفة لقول هذا، ولكن الحمل بك لم يكن جميلاً مثلك، فقد تلطمنا في الحياة كأسرة صغيرة، وحل على رأسنا العديد من البلاءات، ثم هددنا وحش الانفصال، أعتذر يا صغيرتي فلم أستطع الانشغال بك وسط كل تلك الهموم، ولكنك شاركتني أنتِ أخص دقائقي، ولكنني لم أسلم من تهديداتك أيضًا، أنذرتني بالولادة المبكرة مرات ليست بالقليلة، ولكنه إنذار من لا يفعل لو تعلمين.

آه نسيت أن أخبرك لمَ لم يكن إنذار الولادة هو الاحتيال الأوحد، فأنتِ يا محتالة لم تعلني لنا عن هويتك حتى شهرك السابع، ثم أصابني الحنق من هذا الاحتيال، ما هذا الطفل اللعوب الذي لم يرد أن يفصح لنا عن هويته، ألا يكفيكِ ما فعلتِ بي، هل تتواري أيضًا؟!

الحق يا فتاتي أن هذه كانت أول فرحة أفرحها منذ نبوءة حملك، فحينما علمت بكونك فتاة لم تسعني الدنيا، ولو أنكِ تعلمين شدة تعلقي بأخيك ونذري لنفسي ألا تكون فرحة مثل فرحة علمي بحمله لحسبتِ أنني حزنت لكونك فتاة، ولكنني لا أستطيع التغاضي عن حميتي لبنات جنسي، فهن لطائف الحياة ولونها، دعينا ننتقل إلى موعد ولادتك التي ما كنت تأتى في زمانها، فلقد صعدت السلالم وحركت الدواليب ولعبت القرفصاء ولم أسر الهوينى، قطعت المسافات الطوال وشربت القرفة وابتلعت التمر وما كنتِ لتحركي نفسك حتى، علمًا بأنك هددتني بالمجيء مرات تلو مرات في شهرك السابع، ولكن حين حان موعدك امتنعتِ، لا أخفيك سرًا لقد سئمت منك يا عزيزتي، لقد دخلنا شهرنا العاشر ولم تعطِ أمارة واحدة لقدومك حتى، حقًا لقد سئمت.

أخبرت الله بهمي كل يوم، بكيت نفسي وضعفي وقلة حيلتي وقلة نومي وراحتي، ماذا يعني أن أحمل ثلاث كيلوات بحواشيهن بداخل بطني! لقد اتسعت بحول الله بداخلي ولكن روحي لم تتسع لكل هذا الألم، كان أخوكِ يحاول الهروب من رحمي كل يوم، كنت أبقيه بداخلي بالدعاء والمثبتات، حتى أنه لم ينتظر لنصف شهره التاسع وفر هاربًا من داخلي، أما أنتِ كنتِ محتالة، عندما أردتك بداخلي حاولتِ الهروب وعندما حاون موعد ولادتك آثرتِ البقاء، ويكأن الله قسم لكِ أكبر نصيب من كيد بنات حواء.

دعينا نتجاوز أو لا نتجاوز، فقد آمنت بالله مما حدث معي، لقد زاد توتري وارتفع ضغطي ولم يعد بوسعنا إبقاؤك داخل مستقرك أكثر، حددت الطبيبة موعد القيصرية، لماذا يا عزيزتي؟ سأدخل إلى غرفة العمليات بسببك الآن! ما هذه الطفلة التي ما كانت تأتي “بالطبل البلدي” إن جاز لي القول، ولكن كان لكِ رأي آخر يا جميلتي، لقد قررتِ أن تعفيني من العملية فى آخر سويعات لنا قبلها، حاولتِ أن تدفعي نفسك ولكن لم أصدقك هذه المرة، على كل حال لم يصدقنا أبوكِ بعدما هرع بنا إلى كل المستشفيات مرات متفرقات بعد منتصف الليل، بعد نذير قدومك الكاذب. على كل لقد كذّبت نفسي ولكن جافاني النوم على أثر الألم، انتظم دفعاتك وزادت قوتها ولم أتمالك نفسي من الصراخ، حسنًا القيصرية الثامنة وقررتِ أنتِ تجاوز الموعد والأطباء لتأتي فى العاشرة بأمر الله.

مرحبًا بقدومك يا جميلتي، ولو أني أقول إنك كنتِ نسخة مني لقالوا تمتدح نفسها الآن، ولكنك كنتِ كثيرة الشبه بي يا صغيرتي، لم أبكيك فرحًا كما فعلت مع أخيكِ، فقط كنت فى حالة ذهول مما فعلتِ، شيبني أخوكِ أربع وعشرين ساعة في آلام المخاض، أما أنتِ فقد كنتِ حازمة وصارمة، فحين قررتِ المجيء لم يستغرق هذا أكثر من 6 ساعات، بينها ثلاث لا يحتملن فقط، فمرحبًا مرحبًا وأهلاً، ولكن دعيني أستوعب تغيراتك أيضًا.

حسنًا أتيتِ في ظروف متشابكة حقًا، ولكن يبدو أن محبتي لم تكن كافية أو أن الله أراد أن يختبرني في صدق محبتي لكِ، لقد أُصبتِ بالتهاب رئوي بعد عشرة أيام، لقد ذاق القلب حلاوة القرب وآن ليتذوق مرارة الفراق، دام فراقنا خمسًا، خمسة أيام أحصيتها ساعة ساعة وعشتها لحظة بلحظة أتقلب بين الخوف والرجاء، ولكن لم أفقد إيماني لحظة بالله، سينجيكِ الله، سينجينا الله كما يفعل في كل مرة.

كنت أراكِ في اليوم عشر دقائق صغيرة، لا أكاد أراكِ بين الأسلاك، ولكنك كنتِ تنامين بجمال ودعة تأسر القلب. يا جميلتي أنا في كل مرة أبعد ناظري عنك تفرضين وجودك، وإنه والله لمحبب، أبيتِ إلا النوم بين أحضاني في كل ليلة، حتى أنني حسبت بعد ثلاثة أشهر الأولى أنني لم ألدك بعد، أما ما كنت أخشى مجيئك بسببه فقد أوقف الله العالم أجمع وجلست بكِ في البيت بأمر الدولة، يبدو أنكِ علمتني أن أترك الأمر لله قليلاً، فالله يدبر لنا ما لا نحسن تدبيره، الله يتولانا يا حبيبتي.

كل عام وأنتِ تفوحين عطرًا يملأ أرجاء دنيانا، كل عام وأنتِ تتفتحين يومًا بعد يوم وردتي الجميلة، كل عام ونحن نكبر بكِ، فقد أصبحنا أسرة بعد أن كنا أفرادًا، سيكتمل عامنا بكِ إن شاء الله، فأسأل الله أن لا ينقطع قبولك بين أهل الأرض، لم أبرح أدعو الله، لكن منذ أن كنتِ مضغة في رحمي أن يرزقك جمال الخلقة والخلق، ولن أبرح إن شاء الله.

المقالة السابقةعلامات الاكتئاب وأسبابه عند الأطفال والمراهقين والنساء
المقالة القادمةهل الجنون حقًا حرية؟
مساحة حرة لمشاركات القراء

1 تعليق

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا