هل الجنون حقًا حرية؟

981

بقلم: فاطمة سيد توفيق عبد العظيم

هل المجنون هو العاقل الوحيد في هذا الكون؟ هل العقل سجن والجنون حرية؟ بعد ثلاثة أشهر من الحجر الصحي وجدت بعض أعراض الاكتئاب تدق بابي. تساءلت كيف يمكن لبشر أن يظل في مكان واحد طوال كل تلك المدة، في ظل ذلك التطور الذي جعلنا نميل إلى السرعة في كل شيء، حتى المشاعر والأحاسيس، وتذكرت مئات القصص والروايات التي تتحدث عن العزلة وأدب السجون، والأفلام التي تتحدث عن كيفية التكيف والبحث عن الحرية في أبسط الأشياء، وإن كان الحرية بالتنفس، وحتى أدب ساحات المرض الذي يملك من النهايات الحزينة الكثير، ومن لا يملك حتى رفاهية الحركة من كرسي متحرك ولا حتى سرير، قلت لنفسي كفاني نقمًا على الحياة وعلى كثير من النعم التي لديَّ، لكن أصبحت أقصى أمانيَ فقط التنزه والمشي بلا هدى، يبدو أني أصبحت مسجونة في بيتي، لم أتحمل ذلك ثلاثة أشهر فما بالي بنفسي المسجونة بداخلي طوال العمر.

همس الجنون

كان ذلك عنوان القصة القصيرة التي كتبها الأديب الكبير نجيب محفوظ، وتتلخص جميعها في سؤال واحد: ماذا لو قررت نفسك التحرر ولو ليوم واحد في حياتها من سجن عقلك وقلبك وجسدك وكل حواسك؟ وهل المجنون هو شخص مخطئ أم أنه فقط تحررت نفسه من قيود العبودية؟ حتى بعد قراءتي للقصة لا زلت لا أعلم، فصاحبنا في القصة مواطن عادي له طربوش وزي مهندم، واحترام عالٍ للمجتمع، أي يقال عنه رجل محترم وعاقل.

هل يستطيع العقل دائمًا أن يكبح جماح النفس؟

يبدو أن لكاتبنا رأي آخر، حيث صور الكاتب في روايته الهروب من القيود وكسرهها بالحرية، بداية من حريته لفعل أبسط الأشياء، كألا يجعل هندامه محترمًا، وأن يتحدي المعقول ويقف على قدم واحدة بالشارع، ومن ثم يمشي كما يشاء، وبعد ذلك يسبُ من يشاء، ويضرب من لا يستصيغ علي مؤخرة رأسه وسط العامة، وإن كان نتيجة لذلك سينال رهطًا من الضرب المبرح، وحتى يصل إلى التحرش بفتاة بالشارع، إلى أن نراه بلا ملابس على الإطلاق.

تساءل بطل قصتنا في أولها عن أهمية ارتداء جميع تلك الملابس، التي لا تمثل لنا شيئًا عدا تقليل حريتنا، وإخفاء مفاتن الفتيات الجميلات كاللاتي تحرش بإحداهن فيما بعد، لمَ نلبس تلك الملابس؟ لمَ لا نُترك على سجيتنا كما خلقنا الله؟ وتساءل أيضًا: لمَ لا نفعل كل ما يخطر على عقولنا في التو واللحظة، كأن أسُب أناسًا أكرههم، أو حتى أضربهم، أو حتى أبسط حقوقي أن أسير كما يحلو لي؟ لما عليَّ أن أواكب المجتمع لأكون محترمًا (عاقلاً في نظرهم)؟ ماذا ستفيدني نظرتهم؟ وهذا ما توصل إليه في نهايتها، أنه أصبح لا يهتم، فقط يشعر بالحرية ولذة فعل ما يحلو له.

لم أجرب يومًا لذة ضرب رجل محترم على مؤخرة رأسه، حيث إن بطل قصتنا وجد أنه حتى وإن انهالوا عليه بالضرب والسباب بعد عملته تلك إلا أنه كان سعيدًا، كان سعيدًا بالتخلص مما في جوانب نفسه، كان سعيدًا لشعوره بالألم، لأنه لم يكن ألمًا عاديًا كالمحتم عليه الشعور به كل يوم وهو ينساق في قطيع الاحترام، ولكنه ألم ناتج عن فعل ما أراد، ألم هو اختاره، لأول مرة في حياته هو الذي يختار الألم، لا الألم الذي يختاره.

على شفا الجنون

كعادتي، دائمًا ما أتصيد الأخطاء في أي عمل أقوم بقراءته، ولكن وللمرة الأولى لم أجد غير فيلسوف عظيم، يناقش قضية لم يناقشها أحد من قبل: هل المجنون هو العاقل الوحيد؟ هل العقل سجن والجنون حرية؟ هل الجنون حاله مسيرة أم هي اختيار؟ ويبدو أن تلك الأسئلة العظيمة جعلتني لا أريد أن أرى أي ثغرة في ذلك العمل البسيط المليء بالألغاز، فهو أول كاتب أراه مهتمًا بوصف حالة الجنون، بل ويعرضها من منظور فلسفي بحت مع بعض من الكوميديا، وهو مزيجي المفضل، وهذا ليس تحيزًا على الإطلاق، ولكنه عبقري وعظيم وأنصح الجميع بقرائتها، فهي حالة أخرى جعلتني أتساءل هل أنا مسجونة أم حرة؟ وإن كنت مسجونة بداخلي هل هذا يعني أني في سجن نفسي وسجن المجتمع لي داخل منزلي وسجن العادات والتقاليد والعرف، وسجن القانون، وسجن الاحترام؟ وكان أول فكرة راودتني بعد ذلك السيل من الأسئلة: ماذا لو ادعيت الجنون وذقت معني الحرية أنا الأخرى؟ هل حقًا في الجنون حرية؟ لا أعلم ولكني على حافة التجربة.. إلى لقاء آخر.

المقالة السابقةرسالة إلى ابنتي ورد
المقالة القادمةعادات الناجحين: 10 خطوات يومية لحياة أفضل
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا