بقلم/ دعاءحسام الدين
لا يريد المشهد أن يترك بالي وقلبي ويرحل، كلما سمعت عن امرأة وضعت طفلها الصغير حديث الولادة. أستحضر المشهد بتفاصيله من جديد.. ارتداء قميص أزرق اللون مصنوع من خامة قاسية خشنة، يروق لرائحة المستشفيات وغرف العمليات. ملائكة الرحمة من حولي، أقل واحدة في عقدها الخمسين عابسة الوجه لا أعلم لماذا! هل هي تعنفني أني لا زلت مُصرَّة على إنجاب طفل في هذا العالم الموحش، وترى أني فقدت برجًا من رأسي عندما أخذت قرار الإنجاب، أم أنها على خلاف مع الطبيب الذي سيساعدني على وضع طفلي؟
كل الظروف من حولي مرعبة. لا أنسى نظرة زوجي وحيرة أهلي، وكل ما يدور في نفسي: هل هم خائفون عليَّ أم على صغيري الذي سوف يأتي إلى الدنيا بعد دقائق؟
دخلت إلى غرفة العمليات، أكثر الأماكن قبضة بعد القبور، رقدت على سرير أشبه ما يكون بمائدة صلبة لا يملك أي قواعد الإتيكيت ليكون قاسيًا على أم حديثة مثلي ترقد عليه لأول مرة، لتُخرِج طفلها للدنيا، لأجري عملية القيصري لوضع رضيعي.
وقتها طلب مني الطبيب المختص بالتخدير أن أجلس جلسة معينة لأخد إبرة تخدير صغيرة، قبل قرار إعطائي إبرة التخدير النصفي في الظهر. استجبت وقتها، ولكن في داخلي صراخًا ينبع من خوف لشيء جديد مستحدث لم أخض تجربته من قبل، ولا حتى أتوقع كيف ستكون آلامه بعد إبرة التخدير الأولى.
انتظر الفريق الطبي المختص بالتخدير لبضع ثوانٍ، ثم قرروا وخزي بحقنة تخدير الظهر، التي بدورها تُخدِّر الجزء الأسفل حتى يتمكن الطبيب من مساعدتي على وضع صغيري.
كنت خائفة من هذا العالم الذي أجلس به وحدي، لا أرى سوى أعين الأطباء من تحت القناع المعقم. أبحث عن أي نظرة تُطمئن قلبي، أشعر بحركات قد تكون غير مؤلمة ولكنها الأسوأ على الإطلاق، في انتظار خروج طفلي، أتنصت لأسمع صرخته الأولى للحياة، خوفًا أن يكون أصابه مكروه، حتى جاء إلى الدنيا وبدأ في الإعلان عن مجيئه بصرخة أفاضت قلبي بالفرح قدر خوفي ووحشتي، في غرفة شعرت فيها بوحدة قاتلة.
اقتربت به ملاك الرحمة. نظرت إلى وجهه الجميل واختفت آلام الدنيا وتلاشت مشاعر الخوف، وتمكن هذا الكائن الذي لم يتجاوز عمره لحظات أن يكون خير مؤنس لي داخل العالم الذي تملؤه رائحة المخدر والمطهرات والجروح.
أعلم أنها ساعة قاسية، ندخل لا ندري إن كنا سننتصر على عبث هذه الحياة أم لا، ولكن لا يحركنا سوى شيء واحد، هو الرغبة في رؤية الروح التي تكوَّنت من روحنا وكبرت بداخلنا وتغذت على أوردتنا، وربطنا بها حبل الحياة حتى خرج وأعلن عن قدومه، صارخًا صرخة قد يعتقد البعض أنها صرخة الحياة.
ولكني أُكن له كل التقدير والحنان لأنك يا صغيري كنت تعطي لي صرخة الاطمئنان أني لست بمفردي.. صرخة أنستني كل الوجع، بكاء تلاشت معه ذكرى وخزة البنج المؤلمة التي لا يمكن أن تنساها امرأة اخترقت جسدها لتشعل النيران بقدميها وتنسيها الإحساس بجزئها السفلي.