الطب النفسي.. الرفاهية الضرورية

446

أشكو من صداع شبه دائم واضطرابات في النوم، أحكي لصديقة أمي فتؤكد لي ضرورة زيارة الطبيب النفسي، “السايكريست” كما تسميه.

تؤكد لي أن “السايكريست” الذي تتابع معه أشبه بصديق تثرثر معه وتشكو له من كل ما يعكر صفو يومها، أطلب منها أي تحكي لي أكثر عن تجربة المتابعة مع طبيب نفسي.

تحكي أنها تذهب إليه ثلاث مرات في الأسبوع وربما أكثر، تذهب إذا شعرت بالصداع “لأنه مفيش سبب عضوي يخليني عيانة”، تذهب إذا حلمت بكابوس، تذهب إذا تشاجرت مع عائلتها أو مديرها في العمل.

صديقة أمي تعيش حالة دائمة من الشعور بالمرض النفسي، وترى أن الجميع مرضى بحاجة لـ”سايكريست”، أسألها عما بها فتقول “I’m depressed” أي أنها مكتئبة.

أعلم أنني غير متخصصة في الطب النفسي، لم أدرسه أو أمارسه وحتى لم أتعامل مع مريض نفسي بشكل قريب لكني قرأت كثيرا في الطب النفسي، وأعتقد أن ما تعاني منه ليس مرضا نفسيا، بقدر ما هو إدمان لحالة الشعور بأنها مريضة نفسية، وأنه إن كان هناك ضرورة لأن تعالج، فيجب أن تعالج من إدمانها هذا.

صديقة أمي تنصح الجميع بالمتابعة مع طبيب نفسي، وكأنه ليس هناك من مرض في الدنيا إلا المرض النفسي، الصداع واضطرابات النوم ومشكلات الجهاز الهضمي والخمول والإرهاق، كلها من وجهة نظرها أعراض لأمراض نفسية متخفية.

ترى أنه علي أن أستشير طبيبا نفسيا لتقلبات المزاج التي أمر بها بين الفصول، ولمتابعة حالتي بسبب التوتر الذي يسببه لي العمل أو نزول الشارع، أما اضطرابات نومي فهي طبعا أخطر مما قد أظن أو أعتقد.

حينما أفكر في الموضوع قليلا أجد أنها تخلط ما بين دور الأصدقاء المقربين ودور الطبيب النفسي، هي لا تريد أن تعالج أو تتناول جرعات منتظمة من الأدوية، هي فقط تريد الفضفضة وبعض المهدئات.

أنا أعلم أن المرض النفسي مرض حقيقي، حتى عندما يعالج المريض منه قد يختفي لسنوات ويظهر مرة أخرى، وإن تمكن من شخص فهو قادر على تدمير حياته وعمله وثقته بنفسه وجسده وصحته وعلاقاته بالآخرين، وقد يدفعه في النهاية للانتحار.

وأعلم في الوقت نفسه أن المجتمع لا يقر بسهولة بالمرض النفسي، ودائما ما يعتبر المريض النفسي شخص مرفه، ويرى أنه ما دام جسده سليما فالحديث عن المرض النفسي رفاهية ودلع، وهذه فكرة خاطئة يجب محاربتها والتصدي لها.

لكنني في الوقت نفسه لا أفضل فكرة اللجوء للطبيب النفسي، بسبب أي اضطراب يمر بحياتي، وأرى أن الأدوية التي تعالج الأمراض النفسية ـ كأي دواء آخرـ إن تم تعاطيها دون داعٍ، فإن أعراضها الجانبية ستكون أشد فتكا من المرض نفسه.

المرض النفسي معروف وأعراضه محددة بدقة، وليس كل من أصيب بصداع دون سبب مريض نفسي.

والسينما لها دور كبير في نظرة المجتمع، فقد كبرنا ونضجنا ونحن نرى المريضة النفسية تذهب لعيادة خافتة الإضاءة، حيث ينتظرها طبيب وسيم يجلس بوقار متلهفا على حكايات ماضيها، بينما في الخلفية نستمع لموسيقى غامضة تساعد على الاسترخاء، وتتكشف العقدة التي تعاني منها البطلة بالحكي، وفي النهاية، لا يزيد العلاج دائما عن المهدئات.

أما بالنسبة لصديقة أمي والآخرين الذين أخذوا فكرتهم عن الطب النفسي من أفلام السينما، حيث كل مريضة هي نادية لطفي أو سعاد حسني وكل طبيب نفسي هو رشدي أباظة أو أحمد مظهر، والعلاج النفسي هو استلقاء على الشيزلونج والفضفضة والعودة إلى الماضي البعيد، بينما يدور المسجل لتسجيل الجلسة، والذين يرون أن المرض النفسي مكمل مهم لهالة العمق والغموض والاضطهاد المجتمعي التي يرغبون في رسمها حول أنفسهم.

لكل هؤلاء أقول كفى.. فما تفعلونه أضر بالمرضى النفسيين الحقيقيين، وأبعد عنهم فرص العلاج والشفاء والتعافي.

المقالة السابقةإيه هي أسباب الإصابة بالاكتئاب أصلًا؟
المقالة القادمةالاعتراف سَيد الأدلة

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا