الاعتراف سَيد الأدلة

761

لأن الاعتراف سَيد الأدلة كما يقولون، أُقر أنا “ياسمين عادل” كاتبة هذا المقال وأعترف أنني على مدار سنوات عُمري الـ31 كثيرًا ما صَرَّحت بحاجتي للذهاب لطبيب نفسي، غير أنني لم أفعلها إلا مرة وحيدة، حين بلغ شعوري بالحاجة لذلك درجة جعلت من حولي يتركونني أخيرًا أفعل ما يحلو لي، دون مُحاولة إثنائي عن ذلك أو اتهامي بالمبالغة مثل كل مرة.

ذهبت بالفعل للطبيبة التي أخبرتني بدورها بأشياء عني أو عما أشكو منه ليست جديدة على مسامعي، فَنَّدَت لي بعض الحقائق ثم رَمَت الكرة في ملعبي، وطالبتني بمعاودة الذهاب إليها لمزيد من البَوح، لكنني فوجئت وقتها -على الرغم من حاجتي المُلحة لطبيب نفسي- أنني لست مستعدة لإخبار أحد غيري بالتفاصيل الدقيقة للأشياء التي تعترم داخلي!

جاء ذلك بسبب شعوري أن هذه التفاصيل شديدة الخصوصية للدرجة التي تجعل من الصعب عليَّ مُشاركتها ولو مع طبيب، حتى لو كان ذلك يعني أن يبقى الوضع على ما هو عليه وأظل أدور في حلقاتي المُفرغة، وبالتالي لم أعاود الذهاب مرة أخرى.

حينها فقط علمت أن إدراكنا لما نُعاني منه واعترافنا الداخلي بذلك أمرٌ يسيرٌ، مقارنةً باستماعنا لأنفسنا بينما نقُص تلك المشاعر والسلبيات أمام آخرين، فتتحول بفعل الحَكي لحقائق لا تقبل الهرب منها.

 

“الجهل ترف لم يعُد في متناولنا”*

أن تعرف أن هناك خطبًا ما بك يستلزم وقفة مع النفس والبحث عن علاج للروح التي أصابها عَطبٌ لأي سببٍ كان، يختلف تمامًا عن الاعتراف بذلك بينك وبين نفسك أو بينك وبين الآخرين.

فسلوكياتنا وقراراتنا عن جهل أو حتى عن تظاهر به لن تظل كما هي بالطبع، إذا ما أعلننا معرفتنا لحقيقة الوضع، هذا لأن المعرفة يأتي بعدها كثير من المواجهات وكشوفات الحساب، ما يستدعي اتخاذ ردود فعل حاسمة ومصيرية، قد يُصاحبها ترك عمل، قطع علاقات، البدء من الصفر أو حتى الذهاب لطبيب نفسي.

ولأن تلك القرارات تستلزم شجاعة ليست دائمًا في المتناول، يصبح من الأسهل علينا الإدعَّاء بأننا أحسن حالًا مما نحن عليه بالفِعل، أو أن ما نمُر به ما هو إلا شيء عابر سينقضي مع الوقت والتجاهل، وحتى لو اعترفنا بوجود خلل ما لن نُجاهر بالأسباب الحقيقية وراءه خوفًا من أن ننبش جراحًا لم نعرف كيف نُداويها، جراحٌ على حياتنا أن تستمر في وجودها كأن لم تكن.

ولكن.. ماذا لو عرفنا، واعترفنا؟ هل انتهت المُشكلة؟

لا للأسف.

فحتى ولو عرفنا واعترفنا، هناك مشكلات مهما وضعنا يدنا عليها سنظل غير قادرين على رؤية أبعادها وجذورها كاملةً، وإن رأينا لن نستطيع إيجاد حل لتلك الجذور المهترئة دون أن تُهدم حياتنا وتقلبها رأسًا على عقب، وهنا يكون علينا اللجوء لمُتخصصين بحثًا عن المُساعدة.

 

وفي مجتمعات ليس لديها ثقافة “إن لنفسك عليك حق”، ولا تتمتع بالقُدرة على تَقَبُّل فكرة أن النفس جزء من كياننا -تمامًا كالجسد- لا يجب أن نستهين بشكواها أو نتركها دون علاج، أو أن كوننا مرضى نفسيين لا يعني بالضرورة أننا “مجانين”، يظل حل الطبيب النفسي إذا ما جاهرنا به أمر غير مقبول من وجهة نظرهم، يرونه بعيدًا ونراه قريبًا.

يُصاحب ذلك وَصمهم لكل من يحتاج للعلاج النفسي بأنه “بيتدلع” أو”بعيد عن ربنا”، ما يُصعَّب من عملية المُصارحة، لأننا نُدرك جيدًا أن الحرب التي ستُشن علينا بعد اعترافنا ستحتاج طاقة هائلة للتَصَدِّي لها، طاقة لا نملُكها بالأساس، نحن الضعفاء نفسيًا، وهو ما يُوجب علينا طرح تساؤل مهم.

“لماذا نُصعِّب الحياة على من حولنا؟ جاعلين كل الأشياء -من أصغرها لأكبرها مهما كانت شخصية للغاية ولا تخُص غير صاحبها- تحتاج خوض معارك من أجل الفوز بها؟”.

ولأن السؤال لا أملك له إجابة، لن يُمكنني إلا أن أقول لكل من يخافون مواجهة العالم بأوجاعهم النفسية:

رجاءً لا تُتَّفِهوا من حاجاتكم النفسية، التي هي في الأصل أساس كل طاقاتكم الأخرى، فإن هَوَت، تداعت على رؤوسكم حياتكم بأكملها، فليس غريبًا أن تستعينوا على قضاء حوائجكم بالكشف والتعرية لا بالكتمان، لذا لا تخجلوا من الاعتراف بنقصانكم ولا تتباطئوا عن تطهير جروحكم والبحث عن العلاج، والأهم إياكم وممارسة نفس الدور الذي ترفضونه ممن حولكم، فتقمعوا الأرواح التي تحتاج للشفاء، بما فيهم أرواحكم.

 

**

* اقتباس من الكاتبة أحلام مستغانمي.

المقالة السابقةالطب النفسي.. الرفاهية الضرورية
المقالة القادمةغنوة وحدوتة.. نحكيها وتوتة توتة
امرأة ثلاثينية متقلبة المزاج، أعشق الرقص على السطور كتابةً، أُحب الفن بمختلف أنواعه وأعيش عليه. والآن كبرت وصار عليّ أن ألعب في الحياة عشرات الأدوار طوال الوقت، لأستيقظ كل صباح أُعافر حتى أستطيع أن أُحاكي بهلوانات السيرك فأرمي الكُرات المُلونة بالهواء ثم ألتقطها كلها في آنٍ واحد.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا