خلال العام الذي انقضى لتوه، وبسبب جائحة فيروس كورونا المُستجد، كوفيد-19، وجدنا أنفسنا لا نستطيع التلامس، مضطرين إلى التباعد الاجتماعي لا يستطيع الأصدقاء مُصافحة بعضهم البعض، لا تستطيع الأم احتضان صغيرها خوفًا عليه، ولا الفتاة احتضان أمها المُسنّة خوفًا عليها، رُبما أشعرنا هذا بمدى احتياجنا للتلامس كمطلب إنساني يرقى لدرجة الاحتياج النفسي.
تقول “نورا” الأم الثلاثينية:
“المرة الأولى التي رأيت فيها طفلي كان خلال هذا العام، فقد أتممت حملي ووضعت طفلي في مُنتصف العام بالضبط، لا أستطيع أن أصف مقدار القلق الذي كنت أشعر به كلما ضممت إليّ صغيري لإرضاعه، كنت أحاول أثناء إطعامه أن أبعد وجهي عنه، كنت أرفع وجهي لأعلى حتى لا تصل له أنفاسي، بينما ما أتمناه ويملأ قلبي هو أن أضع خدي على خده وأقبّله، لكن الخوف عليه كان يهزمني”.
كنت مُتألمة وأودّ فقط أن أحتضنها
أما “أماني”، فهي فتاة عشرينية، واجهت كما الكثيرين خلال هذا العام مصاعب مهنية واجتماعية مُتعددة، في فترات الجلوس في المنزل المُطولة، كانت تبتلع ألمها في صمت، فهي تعيش مع أبيها المُسن ولا ترغب أن تُشاركه مشكلاتها حتى لا تُعرضه لأزمات صحية. لـ”أماني” صديقة مُقربة، وجدت نفسها تتصل بها وتطلب منها أن تتقابلا، طوال الطريق كان ما يُشغل “أماني” شيء واحد، وهو أنها لن تستطع أن تُلقي بنفسها في حضن صديقتها، كانت تودّ أن تفعل هذا وتبكي، لكنها وجدت أن فيروسًا لا تراه يحول بينها وبين احتياجها الإنساني هذا.
في بعض الدول الأوروبية تمكن البعض خلال وقت الجائحة أن يبتكروا حواجز بلاستيكية تُمكنهم من احتضان أبويهم، دون أن يُعرضوهم لخطر العدوى، وقد تمّت مشاركة مقاطع مُصوّرة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك تحمل هذه المُحاولة مصحوبة بتعليق “لا غنى عن الأحضان”.
https://www.facebook.com/magdi.ahmedali.7/videos/2928632897228984/?t=0
دون التلامس يفقد البشر إنسانيتهم
عام من عدم التلامس، أو حتى التلامس بخوف وقلق، جعل كثيرون منّا يفكرون في أهمية التلامس، ومدى احتياجنا الإنساني له، وهو بالفعل أمر هام، فتحن نتوق إلى اتصال بشري حقيقي، والسبب في هذا كما يرصده الباحثون، هو أن الاتصال الجسدي هو الذي يُميز البشر عن الحيوانات الأخرى، بدءًا من المصافحة الدافئة أو العناق الوجداني وصولاً إلى الحصول على تربيتة على الظهر، لقد قمنا بتطوير لغات وثقافات معقدة وتعبير عاطفي من خلال الاتصال الجسدي، لذلك من الضروري الحفاظ على اللمسة الإنسانية غير الجنسية، حتى نتمكن من الازدهار حقًا.
يصبح البشر فاقدين لجزء كبير من إنسانيتهم تقريبًا في غياب اللمس. قبل مائتي عام، اكتشف علماء فرنسيون مخلوقًا يشبه الإنسان يجري عبر الغابات. بمجرد القبض عليه، قرروا أنه إنسان يبلغ من العمر 11 عامًا وكان ضائعًا في الغابات لجزء كبير من طفولته. كان هذا هو الطفل “فيكتور”، وقد خلص الأطباء النفسيون الفرنسيون في النهاية إلى أنه حُرم من اللمسة الجسدية البشرية، مما أعاق قدراته الاجتماعية والتنموية.
التكنولوجيا حرمت كثيرون من التلامس قبل الجائحة
في عام 2018 سافرت تيفاني فيلد، رئيسة معهد أبحاث اللمس في كلية ميلر للطب بجامعة ميامي، إلى مطارات مختلفة في فلوريدا لمشاهدة تفاعل الناس. اكتشفت فيلد، الباحثة التي درست التلامس لأكثر من أربعة عقود، اكتشافًا صادمًا: لم يكن أحد يلمس بعضه البعض. كان الجميع على هواتفهم. تقول فيلد:
“أعتقد أن وسائل التواصل الاجتماعي كانت ضارة حقًا للتلامس، أن تكون على هاتفك يبعد الناس جسديًا عن بعضهم بعض. اعتدت لسنوات أن أكون في المطارات، كنت أرى الناس يتعانقون ويغفون على أكتاف بعضهم بعض. الآن هم فقط لا يتلامسون”.
علم اللمس
يلعب اللمس دورًا أساسيًا في تطورنا ورفاهنا الجسدي والعقلي. تستمر الدراسات الجديدة عن اللمس في إظهار أهمية الاتصال الجسدي في التطور المبكر، والتواصل، والعلاقات الشخصية، ومكافحة الأمراض
نشأ علم اللمس في منتصف التسعينيات، عندما سافر عالمان إلى رومانيا لفحص الحرمان الحسي للأطفال في دور الأيتام التي تعاني من نقص الموظفين. ووجدوا أن الأطفال المحرومين من اللمس لديهم مستويات منخفضة من الكورتيزول، وهم قليلو النمو بشكل مذهل بالنسبة إلى فئتهم العمرية.
من الوقت الذي نكون فيه في الرحم وصولاً إلى سنوات الشيخوخة، يلعب اللمس دورًا أساسيًا في تطورنا ورفاهنا الجسدي والعقلي. تستمر الدراسات الجديدة عن اللمس في إظهار أهمية الاتصال الجسدي في التطور المبكر، والتواصل، والعلاقات الشخصية، ومكافحة الأمراض.
رُبما أعادت الجائحة والتباعد الإجباري للتلامس أهميته، وأشعرت الكثيرون بأنه أمر هام لا ينبغي التوقف عنه، رُبما كنّا نحتاج إلى المنع التام والإجباري حتى نشعر بمدى أهمية التلامس.
فوائد التلامس الجسدي كما أثبتته الأبحاث العلمية
يربط البحث العلمي الآن اللمس الجسدي بالعديد من الفوائد الهامة التالية:
تقليل العنف
قلة اللمس للطفل يؤدي إلى عنف أكبر. اقترح عالم النفس التنموي الأمريكي جيمس دبليو بريسكوت أن أصول العنف في المجتمع كانت مرتبطة بنقص الترابط بين الأم والطفل. توضح الأبحاث التنموية للأطفال أن غياب الترابط الجسدي والتعلق الصحي بين الشخص البالغ والطفل قد يؤدي إلى اضطرابات عاطفية مدى الحياة.
وجدت الأبحاث في كلية الصحة العامة بجامعة كاليفورنيا أن التواصل البصري والتربيت على الظهر من الطبيب، قد يعزز معدل البقاء على قيد الحياة للمرضى الذين يعانون من أمراض معقدة
توفير ثقة أكبر بين الأفراد
يساعد اللمس على ربط الناس بعضهم ببعض. فقد توصل عالم الأعصاب إدموند روس، إلى أن اللمس الجسدي ينشط القشرة الأمامية للمخ، ويرتبط بمشاعر المكافأة والرحمة، وتُظهر الدراسات أن لمسة بسيطة يمكن أن تؤدي إلى إطلاق هرمون الأوكسيتوسين، المعروف أيضًا باسم “هرمون الحب”، حيث تحتوي بشرتنا على مستقبلات تثير استجابات عاطفية مباشرة.
فوائد صحية
لقد تم ربط بعض الفوائد الصحية والجسدية باللمس الجسدي، ربما لأن اللمس يشير إلى الأمان والثقة، فإنه يهدئ. تعمل اللمسة الدافئة الأساسية على تهدئة الإجهاد القلبي الوعائي. قد يُقلل التلامس الجسدي أيضًا من المرض، فوفقًا لبحث تم إجراؤه في جامعة نورث كارولينا، فإن النساء اللواتي يتلقين المزيد من العناق من شركائهن ينخفض معدل ضربات القلب وضغط الدم لديهن، يقوي العناق جهاز المناعة. كذلك وجدت الأبحاث في كلية الصحة العامة بجامعة كاليفورنيا أن التواصل البصري والتربيت على الظهر من الطبيب، قد يعزز معدل البقاء على قيد الحياة للمرضى الذين يعانون من أمراض معقدة.
في بدايات العام الجديد، وانتشار الحديث عن اللقاح الذي يُمكنه مُحاربة كوفيد-19، رُبما كان لدينا فرصة جديدة لاستعادة الدفء والطمأنينة في أحضان أهالينا وأصدقائنا.