الحب في زمن الفيس بوك

828

صور مبهجة جدًا٬ فتيات باسمات ورجال متأنقون٬ صور لبيوت في غاية الترتيب والنظافة٬ مطابخ واسعة تدخلها الشمس بها منضدة وكراسي وبوتجاز لامع٬ أطفال باسمون يجلسون بهدوء حول أب وأم باسمين٬ كلام كثير عن الحب والزواج والخروج والسفر والحياة٬ كل هذا يأتيك في كل لحظة عبر شاشة هاتفك وصفحات التواصل الاجتماعي٬ حياة هادئة جدًا وحب متواصل وصور كل تفاصيلها كاملة لا ينقصها أي شيء٬ أحاديث وكلام وصور وأحلام تسيطر على حياتك في كل وقت٬ المشكلة الوحيدة أنها ليست حقيقية٬ والمشكلة الأكبر أنك لا تعرف أنها مزيفة.

 

أنا أعتبر التلصص جزءًا من عملي٬ أبحث عن القصص وأسأل عن تفاصيلها حتى أفهم ماذا يحدث في هذا العالم. استمعت للكثير من القصص التي جعلتني أكتشف أننا لم نعد نعرف الفرق بين الإعلانات التجارية والحيلة الحقيقية.. نعم إعلانات تجارية٬ فكل الصفحات التي تشاهدها على مواقع التواصل الاجتماعي والتي تصدر لك مشاهد منمقة عن الحب٬ وكل المشاهيىر الذين تتابعينهم في الجروبات٬ كلهم يقوم بعمله٬ عملهم هو أن يبيعوا لي ولك الحب المُعلَّب. اقتناعك بمنتجهم ومشاركته مع أصدقائك يجعلهم يكسبون المال٬ ويجعلونك تخسرين الأيام.

 

أعرف زوجًا وزوجة كانا على شفا الطلاق لكثرة شكوى الزوج من أن زوجته لا تعرف كيف تسعده٬ وعندما تحدَّث عن التفاصيل اكتشفنا أنه كان ينتظر بيتًا هادئًا جدًا وزوجة متأنقة وجميلة طوال الوقت٬ يشتكي من أنها تنفق الكثير من وقتها في المطبخ٬ وأنها لا تقدم له الطعام مزين كالمطاعم٬ اشتكى أيضًا من كونها لا تضع مساحيق التجميل بشكل متواصل٬ وأنها لا تضع ماسكات للبشرة.

 

أعرف فتاة متزوجة حديثًا اشترت في جهازها أربع بدلات للرقص الشرقي٬ والكثير جدًا من الملابس الخاصة٬ ظنًا منها أن الحب كما عرفته من على فيسبوك يستلزم جنسًا متواصلاً مختلفًا في كل مرة. فتاة أخرى فسخت خطبتها لأن خطيبها يشتكي من الظروف المادية٬ ويرفض أن يأتيها بصندق للفالانتاين ويرى أن شراء خلاط أو مكواة أولوية أكثر.

 

أعرف نماذج أخرى كثيرة لا يعرفون الفرق بين الحب الحقيقي والحب الذي يبيعونه على صفحات التواصل الاجتماعي وفي مسلسلات التليفزيون والأفلام السينمائية٬ يخلطون بين العلاقات الحقيقية الواقعية التي تكون بين بشر حقيقيين، والعلاقات الخيالية بين الموديلز الذي يقفون أمام الكاميرات ويبتسمون بسعادة. حتى في الصداقة٬ صديقتك المقربة لا يجب بالضرورة أن ترتدي ملابس تشبه ملابسك وتشارك صورك معها على إنستاجرام وتكتب هاشتاج الحب.

الحب الحقيقي يمكن أن تجدينه في حبيب يشتري لك في الفالانتاين غسالة أطباق٬ أو زوج لا يملك ثمنها ولكنه يقف ليغسل المواعين في الفالانتاين وفي عيد ميلادك وفي كل الأيام المميزة، ويصنع لك كوب شاي يوم الجمعة صباحًا بعد الإفطار٬ يمكن أن تجدينه في زوج يمسح طاولة الطعام ويلملم الأطباق بعد الغداء٬ يمكن أن تجدينه في مطبخ صغير بلا منضدة ولا كراسي ولكنه نظيف ومرتب وتفوح منه رائحة خَبز الكيك٬ يمكن أن تجدي الحب في حبيب يشتري أقراص المسكن لأنه سيقابلك بعد يوم طويل من العمل ويعرف أنك تصابين بالصداع بسهولة٬ وفي زوج يستمع إلى شجاراتك مع صديقتك المقربة والتي يعرف أنها لن تسفر عن أي شيء وأنك فقط تحتاجين للكلام.

 

الحب الحقيقي تجدينه في بيوت لا يجب أن تكون مرتبة دومًا٬ بل ستكرهين هذا الترتيب المبالغ فيه إذا مرض طفلك وكف عن بعثرة ألعابه ليوم واحد. الحب الحقيقي تجدينه في مجاملة لأقاربك أو أقارب زوجك بمبلغ كبير من المال لا تملكان غيره ولكنكما سعداء لأنكما تستطيعان المساعدة، ولا يتذمر أحدكما لأن الموضوع يخص أقارب الآخر. الحب الحقيقي لا يجب أن تلتقطه كاميرات احترافية بإضاءة خافتة وديكورات متقنة٬ الحب الحقيقي يمكن أن تجدينه في حمام منزلك عندما يستبدل زوجك الفوطة والبشكير بعد استخدامهم دون أن يطلب منك ذلك٬ يمكن أن تجدوه في جنس مشبع مسروق من الأطفال النائمين٬ دون بدلة رقص ودون تحضيرات طويلة.

 

حتى حبك لصديقتك٬ لا يتطلب تفاصيل مرهقة وكثيرة وصور ملونة ومواقف غير حقيقية٬ يكفي أن ترسلي لها رسالة في أي وقت فيها مقطع صوتي وأنتِ تبكين ولا تستطيع تفسير كلماتك٬ ولكنها تخبرك أنها موجودة أو تقول لك “معلش” وهي تعنيها٬ حتى لو لم تريها منذ شهور أو حتى سنوات٬ يكفي أن تعرفي أنها هناك حتى لو لم تتحدثا معًا بشكل يومي٬ تكفي رسائلكما والأسرار التي تتبادلانها بسهولة٬ ودون قلق٬ دون خروجات في مطاعم باهظة ودون التقاط أي صور.

 

الحب المعبأ في التليفزيون والعالم الافتراضي٬ المعلب في منشورات ومسلسلات هدفها أن تبيع لك حياة غير حقيقية لا يمكن امتلاكها بشكل كامل٬ هو وهم مزيف لامع جدًا من بعيد، ولكنه لا يمكن أن يخرج من إطار الصور والفيديوهات٬ لا مانع من محاولة محاكاته بالطبع، ولكن الحياة الحقيقية تتطلب واقعية أكثر والكثير من التفاصيل المرهقة والممتعة، ولكنها لا تلمع ولا تلفت الأنظار.

 

الفرق بين الحب الحقيقي والحب المعلب هو الدفء الذي تستشعره في البيوت٬ الذي لا يمكن أن يحدث دون طبخ وبوتجاز يعمل وفرن موقد٬ وأطفال يخلعون شراباتهم ويلوثون وجوههم ويلتقطون فتات خبز من على الأرض. صخب ويوم مشحون وديون نسددها فنشعر بسعادة حقيقية جدًا٬ ومشكلات تحدث وخلافات عميقة وصراخ يهدأ فنشعر بحب حقيقي جعلنا نتخطى كل هذا دون أن نخسر هذا الحب.

المقالة السابقةإحنا اتنين مش واحد
المقالة القادمةأصعب حب
إنجي إبراهيم
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا