المطبخ السحري

640

بقلم: رفيق رائف

 

تخيَّلْ أن لديك مطبخًا سحريًّا في بيتك؛ حيث تستطيع أن تطعم نفسك وعائلتك بأيَّة كَميَّة من الطعام، وبه كل الأنواع والأصناف الصحية الشهية. أفراد عائلتك وأطفالك يعيشون معك في سعادة لأنهم يحبون الأكل الذي يُقدِّمه مطعمك، وحيث إنه مُشبِع لهم فإنهم لا يأكلون أكلات ضارة من الخارج. أيضًا، أنت لا تستخدم الطعام في العقاب أو في التشجيع. ولذلك هم يثقون بك في تقديم الطعام والاهتمام بهم أيًّا كانت حالتهم أو إنجازاتهم. لا يتشاجرون على الطعام لأنه ببساطة هناك وفرة تكفي جميعهم، بل هُم يتشاركون فيه أيضًا مع الأصدقاء والعائلة. في يوم ما، طرقتْ بابَك فتاةٌ جميلةٌ لديها مطبخ مثل مطبخك، وعائلة تشابه عائلتك حيث تطعمهم بكرم بالغ. وعندما تزوَّجتما صار أطفالكما يلعبون سويًّا سعداء بوجود أصناف من الأكل أكثر تنوُّعًا.

الآن، تخيَّلْ أنك لا تملك هذا المطبخ السحري، وبدلًا منه تمتلك مطبخًا فقيرًا جدًا في الوصفات وفي كَميَّات الطعام المتوفرة. بالتالي، أطفالك جائعون معظم الوقت، بل بعض منهم يصرخ ويبكي كثيرًا بسبب الجوع. وعند وجود طعام يتشاجرون على الطعام؛ لأنهم خائفون طوال الوقت من عدم وجود الطعام. وعندما أتتْ تلك الفتاة صاروا يحبونها كثيرًا بل يُؤلِّهُونها لأنها تمتلك طعامًا. صاروا ينتظرون منها أي طعام يمكن أن تُقدِّمه ويلحُّون عليها ويتشاجرون معها إنْ لم تقدم لهم الطعام.

الآن، دعنا نتخيل أن  أفراد العائلة في تلك القصة هُم الأجزاء المختلفة بداخلك. دواخل الإنسان تحتوي عادةً على دوافع ومشاعر وأفكار مختلفة، نعتبرها مثل أفراد العائلة. عقل الإنسان ليس أحادي الوجود، بل هو غني بالتعقيدات. من الطبيعي أن يحتوي عقلك على أجزاء مختلفة، بل أحيانًا قد تكون متناقضة. ففي أي موقف قد يكون هناك بداخلك جزء خائف، وفي نفس الوقت جزء آخر شجاع، جزء ضعيف، وجزء آخر قوي، جزء سعيد وبجانبه جزء حزين. قد يتحدث بداخلك جزء بصوت طفل صغير هَشّ، ويتحدث جزء آخر بصوت رجل عجوز ناقد لك، وجزء يكون كمراهق مندفع لفعل الأشياء. عندما تتحدث أو تتشاجر تلك الأجزاء، يتكون ما نسميه بالتفكير أو الحديث الداخلي. فلنعتبر الأجزاء باختلافها أفراد عائلتك الداخلية، تم تكوينها وتشكيلها على مراحل مختلفة على مدار حياتك.

رجوعًا للقصة، ماذا لو استبدلنا الحب فيها بالطعام. وبالتالي، المطعم الداخلي هو قدرتك على توفير الحب لعائلتك الداخلية. بالطبع لم يخلق أي منا بذلك المطبخ السحري، وبالتالي نظلُّ نتأرجح بين البحث المحموم عن طعام الحب في مطابخ مَن حولنا أو نبتعد عنهم مؤمنين بأنه لا وجود لذلك الطعام من الأساس، وأن الجوع أفضل بكثير من التعلق بأمل وجوده ثم اختبار ألم فقدانه. نتأرجح بين أن نرمي على أحد مسئولية رعاية أجزائنا الداخلية وإنقاذها، أو نستولي على تلك المسؤولية وحدنا. بدون أن نفهم كيف يمكن أن نحتاج الآخر وأن نتركه يرعانا ويلبِّي احتياجاتنا، لكن نبقى نحن المسئولين الأولين عن رعاية أجزائنا الداخلية وتوفير الحب لها. 

إذا كنت تستطيع توفير الحب لأجزائك الداخلية؛ فإنك على الأغلب سيسهل عليك تكوين علاقات عميقة مع الآخر. فأنت لا تضعه تحت ضغط، ولا تجعل منه شيطانًا إنْ لم يكن مبادلًا لك الحب في كل وقت، بل تشاركه رقصة الحب وتتوليان مسئولية رعاية أجزائكما الداخلية معًا.

ولكن، ماذا يعني توفير الحب لعائلتك الداخلية؟ قد تبدو كلمة استخدُمَت كثيرًا حتى كادت تفقد معناها. ربما يبدأ توفير الحب للأجزاء المختلفة بداخلك عن طريق تكوين علاقة آمنة معهم. وأول شيء في تشكيل العلاقة هو أن تترك لهم البراح حتى يكونوا مختلفين ومتعددين؛ أن تستمع بإنصات إلى ما يدور بداخلك دون أن تعنف أو تصرخ في ما تسمعه؛ أن تسمح  لما بداخلك أن يكون ويتحدث كما هو فعلًا، بدون أن تجبره على الخضوع لتوقعاتك منه (التي ربما تقول يجب أن أشعر بكذا الآن، أو يجب ألا أشعر بكذا الآن). أن تمتلك الشجاعة الكافية للتعرف على أجزاء وأصوات بداخلك قد تزعجك.

علاقتك الآمنة بنفسك هي ما تعطيك مفتاحًا لتكوِّن علاقة آمنة مع الآخر. حيث تستطيع أن تتعاطف جيدًا مع الآخر دون أن تغرقك مشاعره إنْ كنت تعرف كيف تتعاطف مع نفسك وتتعامل مع مشاعرك المختلفة دون أن تخاف الغرق فيها. ولكن، توفيرك للحب لنفسك لا يعني أبدًا أن تكون مشجعًا مُساندًا لها في جميع الأحوال؛ بل الحب الأمين يحتوي بالطبع على تهذيب واتجاه دائم نحو الانضباط. 

إنْ تعلمت أن تتعامل بلُطف مع أجزائك المليئة بالخزي، الضعيفة، شديدة الحساسية، والمتهورة بداخلك؛ فسوف تعرف كيف تتعامل مع أجزاء الآخر برحمة حقيقة وتعاطف صادق. إنْ تعلمت أن تعزل أجزاء بداخلك لأنك تشمئز منها أو تخيفك، فإنها لن تختفي من ساحتك الداخلية، لكنها ستبقى في قبو أعماقك جائعةً للحب والتعاطف منك. وكل من يقترب منك سوف يشعر بنفس ما تشعر به، فيجد نفسه تلقائيًا يخبئ أجزاءه الهشَّة ويخاف عليها منك. إذا استطعت أن تكون حاضرًا ومتعاطفًا معها؛ فإنك تستطيع أن تكون حاضرًا مع الآخر عندما يكون حساسًا وهشًا دون أن تشعر برغبة عارمة في إصلاحه لأن به شيئًا معطوبًا.

أنت تُطعم الآخر بنفس ما تُطعم به نفسك، وربما أتينا إلى الحياة بمطبخ داخلي فقير أو محدود الإمكانات، لكن هذا لا يمنعنا من تعلُّم كيف نطور ذلك المطبخ حتى نطعم ونهتم بأنفسنا. لذلك، حاول أن تعامل نفسك كصديق مُقرَّب. تودد إليها واقترب بحب واحترام. استمع إليها واقضِ معها أوقاتًا دون أن تمل منها. اسألها بانتظام عن ماذا تحتاج ومما تخاف، دون أن تستهزئ بأجوبتها أو تمل من سماع قصصها.  

*مثال المبطخ السحرى مأخوذ من كتاب You Are The One You’ve Been Waiting For, Richard Schwarz

 

المراجعة اللغوية/ عبد المنعم أديب.

المقالة السابقةإيدك تكون أخشن .. قلبك أرقّ
المقالة القادمةالطبيعي يكسب

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا