هل تنفجر في الآخرين لأسباب لا تستحق؟ أو تثور غاضبًا ثم تندم على أقوالك وأفعالك؟ هل تأتي عليك أوقات تفقد فيها الحماس لكل شيء ولا تقوى على النهوض من الفراش؟ إن العامل المحرك وراء كل هذه الأفعال هو المشاعر. والمشاعر موجودة داخلنا في كل لحظة حتى وإن لم ندرك وجودها. إن ما يجعلنا غير مدركين لها هو أنها لم تصل للدرجة التي تجعلنا نعي وجودها، خصوصًا إن لم نتدرب على التقاطها، وهو ما يعرف بـ الذكاء العاطفي.
ما هو الذكاء العاطفي
إن القدرة على الوعي بالمشاعر والتعبير عنها والتعامل معها، يطلق عليها الذكاء العاطفي. فهو على حد تعبير أرسطو:
تلك المهارة النادرة على أن نغضب من الشخص المناسب، بالقدر المناسب، في الوقت المناسب، وللهدف المناسب
أهمية الذكاء العاطفي
المشاعر هي التي تلون الوجود الذي نحياه، هي الموسيقى التصويرية لفيلم حياتنا التي تصنع مزاجها العام. وتكمن أهمية الذكاء العاطفي في النقاط التالية:
هؤلاء الذين يكونون أسرى الانفعال، الذين يفتقرون للقدرة على ضبط النفس، إنما يعانون من عجز أخلاقي: فالسيطرة على الانفعال هي أساس الإرادة وأساس الشخصية
1. تجاوز الأزمات
عندما يكون لدينا وعي وقدرة على التعامل مع المشاعر البسيطة، نكون أكثر استعدادًا للتعامل مع المشاعر القوية. إن من يفتقرون إلى الذكاء العاطفي يظلون في حالة عراك مستمر مع الشعور بالكآبة. أما مَنْ يتمتعون بها فهم ينهضون من كبوات الحياة بسرعة أكبر.
2. النجاح المهني
هناك عنصر هام من عناصر الذكاء الوجداني مرتبط بالنجاح المهني، وهو القدرة على تحفيز الذات. ويشمل ذلك القدرة على تأجيل الراحة إلى ما بعد تحقيق الهدف، والقدرة على التفكير الإيجابي، وإيجاد الحلول البديلة لتجاوز التحديات والإحباطات. ولذلك قد نجد شخصًا يتمتع بذكاء مرتفع يتعثر في الحياة، بينما يحقق آخرون ذوي ذكاء أقل نجاحًا مدهشًا.
3. النجاح في العلاقات
عندما نعي مشاعرنا الحقيقية ونعبر عنها، نستطيع أن نعي مشاعر الآخرين وندخل إلى وجدانهم، فنستطيع أن نقدر رؤيتهم للأحداث، ونتفهم ما يمرون به من مشاعر وصراعات ربما تفسر سلوكياتهم.
4. الارتقاء الأخلاقي
كبت المشاعر وعدم التعامل معها قد يؤدي على المدى البعيد إلى متاعب جسدية، كالصداع والإرهاق المستمر وقرحة المعدة.
يقول دانيال جولمان في كتابه “الذكاء العاطفي”: “هؤلاء الذين يكونون أسرى الانفعال، الذين يفتقرون للقدرة على ضبط النفس، إنما يعانون من عجز أخلاقي: فالسيطرة على الانفعال هي أساس الإرادة وأساس الشخصية. وعلى النحو نفسه فإن أساس مشاعر الإيثار إنما يكمن في التعاطف الوجداني مع الآخرين، أي في القدرة على قراءة عواطفهم”.
5. الصحة الجسدية
يتأثر الجسم بالمشاعر بشكل كبير. فالمشاعر الشديدة تؤدي بشكل تلقائي وسريع إلى أحاسيس جسدية. على سبيل المثال، يؤدي الخوف إلى سرعة ضربات القلب والتعرق وجفاف الحلق. ويؤدي الحزن والإحباط إلى الإرهاق الجسدي. كما أن كبت المشاعر وعدم التعامل معها قد يؤدي على المدى البعيد إلى متاعب جسدية، كالصداع والإرهاق المستمر وقرحة المعدة.
تشريح المخ وعلاقته بالذكاء العاطفي
حتى نتعرف أكثر على المشاعر وكيفية التعامل معها، نحتاج أن نتعرف على تشريح المخ. ينقسم المخ إلى:
- المخ العقلاني: يقع في القشرة العليا للمخ.
- المخ البدائي (الوجداني): يقع في قلب المخ، ويتصل بوصلات عصبية سريعة بمراكز الإحساس، كالبصر والسمع والشم والتذوق واللمس (الحواس الخمس). لذلك، فإن مثيرًا ما قد يثير رد فعل مباشر للمخ الوجداني قبل أن يتمكن المخ العقلاني من فحص الأمر.
على سبيل المثال، عندما تسمع صوتًا مرتفعًا، تنتفض قبل أن تدرك سبب الصوت (رد فعل المخ الوجداني). وعندما يدرك المخ العقلاني أنه صوت الباب أغلق بفعل الرياح يصدر رسائله لإعادة الجسم والعقل لحالتهما الطبيعية.
إذًا فالذكاء العاطفي هو: العلاقة الفعالة بين المخ الوجداني والمخ العقلاني. المخ الوجداني يشعر. والمخ العقلاني يفسر المشاعر ويعبر عنها ويديرها.
العلاقة بين الأفكار والمشاعر
تنشأ المشاعر من أفكارنا وتفسيراتنا للأحداث. على سبيل المثال، عندما تنظر إلى عناد طفلك على أنه يتحداك، فإنك تشعر بالغضب. على الجانب الآخر، عندما تنظر إليه على أنه يطلب مزيدًا من الاهتمام، فإن غضبك يهدأ، وسلوكك معه يختلف.
ولكل من المشاعر والأفكار طريقة مختلفة في التعامل: فالأفكار تخضع للحكم العقلي بالصواب والخطأ، أي يمكن مناقشتها لنقبلها أو نرفضها. أما المشاعر فإننا نقبلها ونعبر عنها، ونبحث عن الأفكار التي وراءها. والمشاعر مهما كانت قوية تنتهي، ويساعد التعبير عنها في اختفائها. أما ما يجعلها تستمر فهي الأفكار التي وراءها. فالمشاعر مثل الدخان نفتح له النوافذ ليخرج حتى لا يخنقنا ويشوش رؤيتنا، والأفكار مثل النار التي تولد هذا الدخان.
ماذا يحدث عندما نخلط بين المشاعر والأفكار؟
عندما نعامل المشاعر كالأفكار:
نحكم عليها بالصواب والخطأ ونرفض بعضها. فمثلًا نرفض شعورنا بالخوف أو القلق باعتباره ضعف إيمان. وهو ما يدفعنا إلى عدم الاعتراف بها والتعبير عنها. والنتيجة أنها تظل حبيسة بداخلنا وتصيبنا بالأمراض النفسية والعضوية.
عندما نعامل الأفكار كالمشاعر:
نقبل بعض الأفكار الخاطئة دون مناقشة باعتبارها مشاعر. على سبيل المثال، عندما يقول أحدهم: “أشعر أن لا أحدًا يحبني” فإن هذا ليس شعورًا، بل فكرة يمكن مناقشتها للتأكد من صحتها.
أضرار نقص الذكاء العاطفي (كبت المشاعر)
يعتبر كبت المشاعر هو نقيض الذكاء العاطفي. وكبت المشاعر يعني عدم إدراك المشاعر، أو الانفصال التام بين المخين العقلاني والوجداني. وذلك ليس مثل كظم الغيظ، فهو إدراك الشعور، ثم كبح السلوك والتحكم فيه. أما كبت المشاعر له أضرار عديدة على المستوى النفسي والاجتماعي والروحي والبدني:
- الإفراط في الأكل والحلويات، أو التدخين، أو الكحوليات، أو الجنس.
- السلوكيات الإدمانية القهرية مثل المبالغة في العمل أو الشراء أو استخدام الموبايل.
- الكلام السطحي مع الآخرين، وتجنب التعبير عن المشاعر.
- الميل للتدين الشديد واللطف والمجاملات ثم التحول فجأة لسلوكيات عكسها تمامًا.
- الانفجار في الغضب بلا سبب أو لأسباب بسيطة.
- الإرهاق وعدم الرغبة في بذل مجهود بدني، والمرض بصورة متكررة.
- أعراض جسدية مزمنة مثل المغص، الإسهال، الصداع، التهاب المفاصل، زيادة حموضة المعدة.
- غياب الدافع أو الحماس لقضية في الحياة.
- صعوبة قبول النفس والآخرين، والحديث عن الناس بصورة سلبية.
- مشكلات مزمنة ومتكررة مع الأهل والأصدقاء لأسباب تافهة.
- الدخول في علاقات مسيئة.
مكونات الذكاء العاطفي ومهاراته
هناك 5 مكونات للذكاء العاطفي، أوردها “دانيال جولمان” في كتابه “الذكاء العاطفي”:
التعبير عن المشاعر بالكلام يزيد من القدرة على إدارتها، حيث إنه يترجم المشاعر لمفاهيم يستطيع المخ العقلاني التعامل معها، بحيث لا تنطلق إلى السلوك إلا عند التأكد من فائدة ذلك السلوك.
1. الوعي بالنفس
كلما زاد الوعي، زادت القدرة على التمييز بين المشاعر. ويعد التعرف على شعور ما وقت حدوثه، هو حجر الأساس في الذكاء العاطفي وفهم النفس. كما أن عدم القدرة على ملاحظة مشاعرنا الحقيقية، تجعلنا نقع تحت رحمتها ونندفع في تصرفات غير محسوبة.
2. إدارة العواطف
هي القدرة على تهدئة النفس، والتخلص من القلق الزائد وسرعة الاستثارة، واختيار السلوكيات المناسبة للتعامل معها. وهي قدرة تنبني على الوعي بالذات. والتعبير عن المشاعر بالكلام يزيد من القدرة على إدارتها، حيث إنه يترجم المشاعر لمفاهيم يستطيع المخ العقلاني التعامل معها، بحيث لا تنطلق إلى السلوك إلا عند التأكد من فائدة ذلك السلوك. كما أن التعبير عن الأفكار المرتبطة بهذه المشاعر يتيح للمخ العقلاني الحكم عليها.
3. تحفيز النفس
عندما نعي مشاعرنا الحقيقية ونعبر عنها، نعي مشاعر الآخرين، ونقدر رؤيتهم للأحداث التي قد تختلف عن رؤيتنا. كما نقدر مشاعرهم وصراعاتهم التي ربما تفسر تصرفاتهم الخارجة. أي نستطيع أن نضع أنفسنا مكان الآخرين
يرتبط النجاح والإنجاز بالقدرة على تحفيز الذات وتأجيل اللذة والراحة. فمثلاً قد نجد شخصًا مبدعًا يخجل من إظهار إبداعه، أو موظفًا كفئًا يثير المشكلات بغضبه، أو طالبًا ذكيًا لا يستطيع إرغام نفسه على المذاكرة. كل ما ينقص هؤلاء لتحقيق مزيد من النجاح هو إدارة المشاعر وتحفيز النفس.
4. التقمص الوجداني
عندما نعي مشاعرنا الحقيقية ونعبر عنها، نعي مشاعر الآخرين، ونقدر رؤيتهم للأحداث التي قد تختلف عن رؤيتنا. كما نقدر مشاعرهم وصراعاتهم التي ربما تفسر تصرفاتهم الخارجة. أي نستطيع أن نضع أنفسنا مكان الآخرين. إن الأشخاص الذين يتمتعون بملكة التقمص الوجداني يكونون أكثر قدرة على التقاط الإشارات الاجتماعية التي تدل على أن هناك من يحتاج إليهم. وهذا يجعلهم أكثر نجاحًا من الناحية الاجتماعية.
5. توجيه العلاقات الإنسانية
القدرة على التأثير في الآخرين تعتمد على المهارة في تطويع عواطفهم. هذه هي المهارة التي تكمن وراء التمتع بالشعبية والقيادة والفاعلية في عقد الصلات مع الآخرين.
ومن الطبيعي أن يختلف الناس في قدراتهم في هذه اﻟﻤﺠالات اﻟﻤﺨتلفة. فقد يكون بعضنا ذكيًا في التعامل مع مشاعره وتهدئتها. وربما يكون البعض الآخر أكثر ذكاءً في تفهم مشاعر الآخرين وتخفيفها. وعلى الرغم من وجود أساس عصبي لقدراتنا، فإن المخ طيع ودائم التعلم. كما أن انخفاض القدرات العاطفية أمر يمكن علاجه، لأن هذه القدرات هي مجموعة من العادات واستجابة لها، ومن الممكن أن تتحسن مع بذل الجهد المناسب.
العلاقة بين الذكاء العاطفي والذكاء الاجتماعي
ينبني الذكاء الاجتماعي على الذكاء العاطفي. فالذكاء الاجتماعي يتكون من المهارات القيادية والقدرة على تنظيم المجموعات، والتوسط لحل المنازعات، والعلاقات الشخصية. وكلها مهارات تتطلب القدرة على تحفيز الآخرين، وفهم مشاعرهم والتناغم معها. كما تتطلب قدرة الشخص على فهم مشاعره والتعبير عنها. والنموذج الصحي هو الذي يتمكن من الصدق مع النفس مع المهارات الاجتماعية.
كيف تنمي الذكاء العاطفي؟
كن لنفسك مدربًا وليس قاضيًا. القاضي لا يهمه سوى التفرقة بين الصواب والخطأ، والحكم بالبراءة أو الإدانة دون أن يهتم بما وراء الفعل. أما المدرب فإنه يشجع، ويصب اهتمامه على تعليمك وتطورك. فكيف تنمي مدربك الداخلي؟
1. لاحظ
- لاحظ نفسك: لاحظ جسدك كتنفسك وضربات قلبك (فالجسد يعكس المشاعر بصدق أكثر من العقل). لاحظ مظهرك الخارجي بما في ذلك حركات الجسد، وتعبيرات الوجه، ونبرة الصوت. أيضًا لاحظ مشاعرك وأفكارك.
- لاحظ الآخرين: لاحظ مظهرهم الخارجي، والرسائل التي يحاولون نقلها من خلال كلامهم. لاحظ أيضًا البيئة المحيطة بهم إن كانت مسترخية أم متوترة.
2. فسر
درب نفسك على استشارة المخ العقلاني، الذي يرى الموقف من جهات مختلفة، ويقدم عدة تفسيرات محتملة.
3. توقف قليلاً
التوقف قليلاً يمنع المخ الوجداني من الاندفاع في السلوك، ويمنح المخ العقلاني فرصة لاختيار السلوك المناسب.
4. تأمل
تأمل النتائج المختلفة التي حصلت عليها من ممارسة الذكاء العاطفي، وكيف أثبتت تلك النتائج عدم دقة تفكيرك.
5. احتفل
الاحتفال والمشاعر الطيبة تعمق هذه التوصيلات الجديدة في المخ.
6. كرر
لاحظ أخطاءك وتعلم منها، متجنبًا اللوم. وتذكر أن كثرة التمرين تمكنك من الممارسة بشكل تلقائي.
إن الذكاء العاطفي مهارة جوهرية تؤثر على جوانب الشخص الروحية والاجتماعية والنفسية والبدنية. ومهما كان تلك المهارة ضعيفة، فإن بإمكاننا تقويتها من خلال المثابرة والتركيز والتمرين المستمر.
المصادر:
كتاب “الذكاء العاطفي”، دانيال جولمان، سلسلة عالم المعرفة.
كتاب “مهارات الحياة”، أوسم وصفي، دار الأمين للنشر والتوزيع.