بقلم: لبنى علي
قمت بتحضير قهوتي واتجهت إلى الشرفة لأتناولها، فالشمس ساطعة اليوم ولا سقوط لأمطار تم رصدها خلال هذا الإسبوع. في ظل هذه الأجواء ظهرت ابتسامة على شفتي، فمنذ عام مضى كنت أتناولها دومًا باردة لانشغالي بالعمل في الشركة، تُنسى القهوة، وعند أتذكرها أرشف الفنجان مرة واحدة دون الاستمتاع برائحتها ومذاقها. فكل ما كنت أريده من هذا الفنجان هو مادة الكافيين لكي أصبح أكثر تركيزًا وأؤدي العمل دون توقف.
رن الهاتف على مكالمة فيديو مشتركة لي أنا وصديقاتي، “نهى” و”رشا”. هذه هي وسيلة التواصل اليومية بيننا. فعلينا الحفاظ على التباعد الاجتماعي في ظل الظروف الراهنة. كانت “نهى” كثيرة الشكوى من الوضع الحالي، وتشعر بالعجز لعدم قدرتها على تغييره. أنا و”رشا” ندعمها دائمًا حتى لا تسقط في دائرة الاكتئاب. خصوصًا بعد وفاة خالها بسبب هذا الفيروس منذ عدة أشهر. استمرت “نهى” في الشكوى وكادت أن تبكي.
“نهى”: لم أعد أستطيع التحمل أكثر من ذلك، كل ما أريده هو أن أخرج دون الشك في كل من حولي بأنه حامل لهذا الفيروس اللعين. اشتقت إلى احتضانكما، اشتقت إلى حياتي القديمة، اشتقت إلى السفر ومخالطة الغرباء، اشتقت إلى ذهاب أطفالي إلى المدرسة دون الشعور بالقلق. إلى متى سنظل في هذا الجحيم، فلا يوجد خريطة زمنية لانتهاء هذا الكابوس.
بدأت أنا في الحديث لأهدئ من روعها قليلاً: “نهى”.. لقد فقدت وظيفتي أنا والكثير من البشر في مختلف أنحاء العالم، نظرًا للأزمة الاقتصادية الحالية منذ بدء الوباء. تألمت كثيرًا في بادئ الأمر لشعوري بالخيانة، فلقد كنت شديدة الإخلاص والتمسك بعملي، ولكن لتقليل النفقات تم تسريحي أنا والعديد من الكفاءات الهامة بالشركة. هل تتذكرين كم بكيت في بادئ الأمر؟ كيف لي أن أفقد وظيفتي بعد كل هذه السنوات؟! كما أنني اعتدت على وجود هذا الدخل المادي الخاص بي، فكيف لي الاعتماد على “طارق” الآن، شعرت بالخجل من ذلك رغم علمي أن “طارق” سيطير فرحًا، فبذلك سأحقق حلمه بالتفرغ له هو و”عمر”.
هل تعلمي يا “نهى”؟ لقد كان “طارق” محقًا، فالآن أنا موجودة بشكل دائم معهما، بدأت في التركيز في كل الأمور الخاصة بهما، خصوصًا “عمر”. “عمر” أصبح أكثر سعادة بوجودي معه طوال الوقت، و”طارق” لا يتذمر من تحمله لكل التكاليف والأعباء المادية، على العكس من ذلك، فهو دائم التشجيع لي، وأخبرني أن العمل بالشركة أدخلني دائرة لم أستطع كسرها يومًا، فربما توقفي الآن وكسري للدائرة والراحة لبعض الوقت هو متنفس لي لكي أقوم بالخطوة التالية، وهي بدء مشروع خاص بنا أنا و”طارق”، وإدارته ستكون لي حتى يتفرغ هو لعمله. فما أجمل أن أكون أنا رئيستي بالعمل!
ضحكت “نهى” أخيرًا على هذه الكلمات.
تابعتُ الحديث: أعلم أن هذا المشروع أيضًا مؤجل نظرًا لما يعانيه العالم أجمع من هذا الوباء، ولكنه سينقضي يومًا ما، ولو بعد حين. وقتها سأحقق حلمي. والآن أنا سعيدة بقربي من عائلتي الصغيرة والاهتمام بكل تفاصيلها، صدقًا يا عزيزتي إن السعادة قرار، قرار عليكِ اتخاذه مهما كانت الظروف والأحوال.
رشا: “نهى” توقفي عن الشكوى، ربما هذا العام وما حدث فيه وما زال يحدث، هو فرصة لنا كي نتعلم تقدير ما اعتدنا عليه، لقد اعتدنا السفر والخروج والرحلات والذهاب إلى الشواطئ، أصبحنا نمل من تكرار السفر لنفس المكان، نمل من الاجتماع بنفس المطاعم والكافيهات، نتنصل من الاجتماعات العائلية ونحاول التهرب منها دومًا. نُكثر الشكوى من واجبات المدارس والاستيقاظ باكرًا لاصطحاب الأطفال إلى المدرسة، أما الآن لقد أصبحنا أكثر تقديرًا لهذا اليوم العادي، اليوم الخالي من الأحداث، فهذا اليوم نتمنى عودته بدون قلق على أنفسنا ومن نحب. لقد فهمنا نعمة الأمان. فعند عودة الحياة لطبيعتها يومًا ما، سنكون أسعد من السابق وأكثر تقديرًا لهذه التفاصيل الصغيرة، فما يحدث فرصة لنا لكي نهدأ ونتوقف عن الركض ولهث الأنفاس.
بعد حديثي أنا و”رشا”، هدأت “نهى” كثيرًا وأغلقنا المحادثة بيننا، وكل منا أعادت التفكير في كلام الأخرى. “نهى” على حق في كل هذا الغضب لعدم معرفة المجهول، فالوضع الحالي قائم لفترة غير محددة بتاريخ أو ميعاد. “رشا” تنظر إلى ما هو أبعد من اليوم وغدًا، تنظر الى تغيير أنفسنا وخروجنا من هذه الأزمة أقوى وأكثر شكرًا لرب العالمين على كل النعم التي لم نقدرها في السابق. أما أنا لن يموت حلمي، فرغم كل هذه الظروف سأظل أحلم، وسأحقق حلمي ولو بعد حين. فبالتأكيد يومًا ما سننزع الكمامات وسنتقابل وجهًا لوجه مع من نحب من الأهل والأصدقاء. بنفوس يملؤها الرضا، وعقول أكثر تفهمًا، وقلوب أكثر قُربًا إلى الله. وحتى هذا اليوم سنمر جميعًا بالرحلة كاملة، رحلة تغيير أنفسنا إلى الأفضل.