اختبرت الخذلان كثيرًا، وتخطيته كثيرًا أيضًا، الخذلان أقوى وأصعب من الفقد، عرفته بسن مبكرة جدًا، سن لا تستطيع فيه أن تعثر على مسمى لمشاعرك، لكنك تعلم جيدًا أنك قد خٌذلت بعمق، بدأ كل شيء مع أبي، طفلة مثلي لم تفهم عن انفصال والديها إلا أنه خذلان لها، كل تلك المرات التي اجتمع فيها الآباء بمدرستي لم يكن والدي بينهم قط، كل هذه الحكايات التي اعتادت زميلاتي أن تروينها عن الرحلات والاجتماعات العائلية والمواقف بصحبة آبائهن لم يكن لي نصيب منها، كنت أستمع لهن، لأبكي لاحقًا وحدي، لطالما تساءلت عن الذنب الذي اقترفته لأنشأ وحيدة بهذا الشكل، لا أملك سوى أمي ولا يملكني سواها!
كنت تلك الطفلة التي لا تحظى بأصدقاء ولا تفهم السبب، لم يلتف حولي الأطفال، ولم أكن أتمتع بذكاء اجتماعي يذكر، محاولاتي العديدة للانضمام إلى شلة دائمًا ما كانت تبوء بالفشل، كان الأمر يضجرني بشدة، لكنني اختبرت معنى الخذلان للمرة الثانية وبعنف في الثانوية العامة، حين أخبرتني الفتاة الوحيدة التي كنت أطمئن للحديث معها “إنتي كنتي معتبراني صاحبتك لكن أنا عمري ما اعتبرتك صاحبتي!”.
عند تلك النقطة وقبل أن أتم الخامسة عشر من عمري كان لديّ ما يكفي من الأسباب لأكف عن الثقة في أي أحد أيًا كان، أتحاشى التعلق، أشاهد ولا أقترب، إنسانة جديدة لديها كثير من المحاذير والاحتياطات والأسوار، شخص يتوقع الأسوأ ويتعامل على أساسه، شخص من المستحيل أن يمنح الأمان لأي كان.
كل هذا الخذلان!
تابعت حالة الانبهار التي انفجرت عقب ظهور زوجي إيمي ودنيا سمير غانم، في عزاء والد زوجتيهما، آلاف المشاركات عبر مواقع التواصل الاجتماعي لصورة الشابين اللذين سيطرت عليهما حالة من الحزن، أثناء تلقي عزاء الحمو الطيب، لكن الصورة تحولت إلى منشور رائج مقترن بوصية “اتجوزي السند”، الفعل الطبيعي لحسن ورامي لم يكن طبيعيًا للكثيرات!
في الواقع تعاطفت كثيرًا مع كل فتاة وسيدة انبهرت وشاركت “اتجوزي السند”، فالوصول إلى تلك المرحلة من الانبهار بالأمور العادية لا يعني سوى تاريخ طويل من الخذلان والتخلي والتقصير، تكرر الأمر مرة أخرى حين قرر والد عروس أن يعفي زوج ابنته من القائمة، وكتب له فيها بخط منمق الجملة الشهيرة “من أؤتمن على العرض لا يسأل عن المال”، فانفجرت للمرة الثانية مواقع التواصل، لكن هذه المرة بالسخرية والهجوم على الأب الذي اعتبروا أنه يبدد حقوق ابنته، فقط لأنه قرر أن يثق في الشاب.. رصيد الخذلان ثقيل للدرجة التي دفعت الكثيرين لتحذير الأب “حق ابنتك سوف يضيع!”، وبغض النظر عما فعله أبطال المواقف السابقة وبمشاعرنا نحوه، يظل التساؤل: متى تحول الخذلان إلى قانون ثابت يصبح من يخالفه بطل قومي يستحق الاحتفال؟!
ماذا يعني الخذلان؟
في اللغة يعني الخذلان ترك الإعانة والإغاثة والنصر، وفي قلبي يعني الخذلان فقد على قيد الحياة وخيبة أمل جسيمة، أما في الواقع فالخذلان يعني كدمة في النفس ورضة في الروح، هذا ليس مجازًا، فثمة “تروما” تلحق عادة بأحداث الخذلان العنيفة، تتراوح ما بين عدة أزمات نفسية مثل كرب ما بعد الصدمة، أو الرهاب الاجتماعي تتطلب علاجًا حقيقيًا وخطوات واضحة للتخطي، حتى لا يتحول من عقبة نمر بها إلى حفر نقبع فيها إلى الأبد.
اقرأ أيضًا: مرض التروما: ما هي التروما وما هو علاج التروما
العيب فيمن خذلنا أم فينا؟
في مقالة لها على موقع سيكولوجي توداي، تقول المؤلفة الأمريكية توني بيرنهارد إن المشكلة ليست في الخذلان نفسه، ولكن في الطريقة التي نتفاعل بها معه. مرت كاتبة المقال والتي تعاني من آلام مرضية مزمنة بالخذلان من قبل صديقتها المقربة، الصديقة التي اعتادت أن تولي اهتمامًا وتعاطفًا شديدًا بتوني ومرضها فجأة لم تعد متوفرة، وذلك لأنها ارتبطت عاطفيًا، فلم يعد لديها وقت كي تدعم أو تخفف أو تلعب الدور الذي اعتادت أن تلعبه، هكذا دون مقدمات أو اعتذار، ما دفع الكاتبة إلى المرور بمشاعر متضاربة بين السعادة لأجل صديقتها والغضب من شعورها بالوحدة والخذلان.
“ليس الخذلان هو ما يؤلمنا حقًا، ولكن ردة فعلنا وطريقة تعاملنا معه هي التي تحدد ما نشعر به”
كانت تلك هي النتيجة التي خلصت لها توني، والتي أوضحت ثلاث طرق خاطئة للتعامل مع الخذلان نقع في شركها دائمًا، وطرق أخرى مفيدة وإيجابية للمرور بالتجربة دون إصابات نفسية، وهي كالآتي:
- الغضب: أسوأ شعور يمكن أن نشعر به عقب موقف به خذلان هو الغضب، لأنه كالتراب المنثور في وجه الريح، يعود في وجوهنا ليؤذينا، علينا أن ننتبع لغضبنا ونفنده حتى لا ننتقل للخطوة التالية.
- الخوف: عادة ما يرتبط الخذلان بالشعور بفقد أمر ثمين، كالدعم أو الحب أو العناية، وهذا صحيح، لكن الأفكار الناشئة عن ذلك الفقد تتفاقم، فتتحول لشعور عارم بالخوف من مزيد من الفقد. دعي عقلك يفكر كما يشاء لكن لا تعتنقي تلك الأفكار.. هي في النهاية مجرد أفكار.
- لوم الذات: أي خذلان نتعرض له ليس لنا يد فيه بالواقع، لذا من غير المنطقي أن نلوم أنفسنا بسبب تصرفات الآخرين، فهي بالنهاية تبقى تصرفات للآخرين.
اقرأ أيضًا: ما هو الخذلان في الحب؟ تعلمي كيف يمكن تخطي صدمة الخذلان
باختصار رد فعلنا هو ما سوف يحدد إلى أي مدى تأثرنا بالخذلان لذا ينصح بالانتباه إلى اتخاذ ردود فعل إيجابية مثل:
- الاعتراف بأن أغلب العلاقات في حياتنا تتغير، من عرفناهم بالأمس ليسوا هؤلاء الذين نعرفهم اليوم، تتغير الشخصيات والمواقف والظروف وكذلك العلاقات، صحيح أن الأمر مؤلم، لكن علينا أن نتقبله كحقيقة من حقائق الحياة الثابتة، الأشخاص لهم أعمار تنتهي وكذلك العلاقات لها أعمار تنتهي عندها، أو في أحسن الظروف تأخذ العلاقات أشكالاً ومسارات مختلفة، ليست بالضرورة سيئة ولكنها مختلفة عن احتياجتنا ربما.
- التماس العذر للآخرين: أيًا كان الشخص الذي خذلك والموقف الذي فعله، أنت بحاجة لأن تلتمس له العذر، ربما هو لم يكن بالقوة الكافية للالتزام ناحيتنا، ربما لو استمرت العلاقة لنتج عنها إيذاء ما، وربما هناك جزء من الحقيقة لا نعلمه، في الحقيقة التماس العذر يساعدنا على التعافي والتخلص من المشاعر السلبية.
- تجنب الأحكام: نحن بشر لا نعلم الغيب ولن نعلم الحقيقة أبدًا ما لم يذكرها أصحابها بوضوح، لذا ثالث طريقة للتعامل بإيجابية مع مواقف الخذلان ألا نحاول البحث عن تفسيرات للخذلان، والتساؤل الشائع “لماذا حدث معي هذه؟!”، هو في النهاية خذلان وقع، تفسيره وأسبابه لدى أصحابه وليس نحن. حياتنا ستستمر وستمضي إلى الأجمل ما لم نتأثر بالقدر الذي يفسد مسارها، ولم نتعثر بإرادتنا عند تلك النقطة.
اقرأ أيضًا: كيف تتخلص من الحزن: محاولات التخطي والنجاة
كيف تتخطي الخذلان
الحياة تمضي والخذلان مجرد نقطة في بحر الحياة، ثمة خطوات مجربة لتخطي التجربة الحزينة، يمكنك اتباعها ببساطة، وإذا شعرت بأنك ما زلتِ متأزمة من الموقف فعليك مراجعة طبيب نفسي مختص لمساعدتك على تخطي الموقف:
- افصلي الحقائق عن المشاعر: من حقنا أن نغضب لكن ليس من حقنا أن نخلط بين تصوارتنا ومشاعرنا وبين الأسباب الحقيقية التي تقف وراء الموقف، لذا من الضروري أن نتأمل الأسباب المنطقية للحدث الذي انتهى بنا إلى الخذلان في النهاية، بصرف النظر عن مشاعرنا تجاه الأمر.
- تقبلي مشاعرك: عندما تشعرين بخيبة الأمل، تعاطفي مع نفسك، صحيح أنك بعد الخطوة الأولى صرتِ تعلمين الأسباب الحقيقية وراء الخذلان، وسواء كانت الأسباب مقنعة لكِ أو لا، الخطوة التالية أن تتعاطفي مع نفسك، ولكن لا ترثي لها، باختصار أنت بحاجة لأن تسترخي وتتأملي وتركزي على القادم، تستوعبي مشاعر الإحباط والحزن والغضب ولكن لا تسمحي لها بأن تقودك.
- تواصلي مع الآخرين: أسوأ ما قد يحدث عقب شعورك بالصدمة تجاه الآخرين أن تتوقفي عن التواصل مع الجميع، على اعتبار أنك سوف تتعرضين لنفس التجربة مرة أخرى. ليس الجميع متشابهون، وفي أوقات كثيرة تنتهي علاقة إنسانية لتبدأ أخرى أجمل، تذكري لذلك جيدًا.
- لست ذئبًا منفردًا: الانفراد بالنفس والعزلة لن تقي من القصص الحزينة، لكنها ستمنعك من الحياة، أقول ذلك عن تجربة حقيقية، تلك الفقاعة التي ستحيطين بها نفسك أملاً في النجاة من تجارب مشابهة سوف تقودك إلى وحدة قاتلة، لن تدع لك وقتًا كي تستمتعي بشيء يذكر، ولا حتى لتبدئي علاقات جديدة أفضل.
- توقفي عن الذم والنميمة: من الجيد أن تعبري عن مشاعرك بحرية وأن تتحدثي عن الأمر حتى تتخلصين منه، لكن هذا لوقت بسيط وبهدف التعافي، الأمر السيئ أنه ما دام استمر غضبك وحديثك عن بطل قصة الخذلان في جلساتك وأحاديثك فأنت لم تتخطي الأمر بعد، توقفي عن الحديث عن الأمر واجترار نفس المشاعر في كل مرة، ضعي نقطة وابدئي من أول السطر.
- الجئي إلى متخصص واطلبي المشورة: لا بأس إذا فشلتِ في الخروج من دائرة الصدمة، أحيانًا نحاول أن نتخلص من الأفكار والمشاعر السلبية لكنها تظل تطاردنا، ليس زرًا نضغط عليه فنتعافى، وفي أحيان كثيرة يتطلب الأمر مساعدة الطبيب النفسي المتخصص.
- التزمي تجاه نفسك، بمجرد أن تتخذي قرارًا بأن تضعي الأمر خلف ظهرك افعلي ذلك، الحياة بها ما يكفي من المتاعب والإيذاء كي نعيش بحمول إضافية على أكتفانا نفكر فيمن خذلنا ومن تخلى عنا، اختاري أن تسامحي وتمضي قدمًا.
- كافئي نفسك: من البطولة أن تنتصري لنفسك ولا تحمليها ما لا طاقة لها به، تلك البطولة تستلزم منك مساحة لنفسك كي تحتفلي بانتصار بالطريقة التي تسعدك. تذكري دائمًا أنك تبذلين جهدًا وتحاولين ولم تتوقفي أو تنحني أمام تجربة مسيئة، أنت مررتِ بالأمر، وبقدر المتاح احتفلي واستمتعي بوقتك، أنت أفضل بنفسك لا بالآخرين.
- لا تعودي أبدًا إلى الخلف: لن أكذب عليك، ستأتي لحظات وتتذكري، في الأوقات الصعبة ستفتقدين وجود من خذلوكِ، سيضع عقلك الحسابات البديلة وتبدئين في التفكير على طريقة “لو كانوا هنا لاختلف الأمر”، تلك طريقة خاطئة في التفكير ستقودك إلى الحزن فقط، ربما لهذا قيل إن “لو” من الشيطان، فهي تضع سيناريوهات خيالية نقوم بقياسها على ظروف ليست خيالية، والنتيجة مزيد من البؤس والشعور بالفقد، وهو ما لا نرغب في حدوثه أبدًا.
- اخلقي مساحتك: ليس لديك شيء لتخسرينه، ربما لن يؤلمك شيء بقدر ما آلمك من قبل، هذا يعطيكِ الحق في خلق مساحة خاصة بك ووضع شروطك العاقلة كي لا يتكرر الأمر مرة أخرى، لا بأس بأن يكون لديك مساحتك، انطلقي فيها برشاقة وسعادة واختاري بشكل أدق من يستحقون ثقتك في المستقبل.
تذكري.. في الواقع لن تخلو الحياة من الخذلان أبدًا، لذلك على المرء أن يتعلم كيفية التعامل مع الأمر، لأنه عادة ما يصيبنا الخذلان في مقتل حين نتعامل معه بالطريقة الخاطئة، فنختبر الوجع مرتين، وهذا ما نحن في غنى عنه بالطبع.
اقرأ أيضًا: الأحلام المؤجلة ومواجهة الحزن والفشل
اعجبتني طريقة السرد و المدونة بشطل عام جكيلة و مفيدة
للأسف مش عارفه اتخطى مرحلة الخذلان وتعبت اوى بالأخص اذا كان السبب فى ده هما أهلى وزوجى من وانا طفلة وانا بتعرض للخذلان فى كل امورى ولم تزوجت قولت لعل الله يعوضنى بالسند والضهر وبزوج حنون يعوضنى عن ما عانيته ولكن للأسف تخذالت به كثير وبدأ كل شئ يتراكم ولم استطع ان انسى يوما ما حدث لى من اى حد أعطيته كامل حبى وهو خذلانى بشده.وللاسف لم اسامحهم ولن اسامحهم ابدا
Some really prize blog posts on this internet site, saved to my bookmarks.