الأحلام المؤجلة ومواجهة الحزن والفشل

1447

أجلس الأن وفخذاي نصف مفرودتين، أدنيهما مني، كصغيرين ضعيفين، يحتاجان للعطف والاحتواء، حاجتهما للرعاية والعلاج. قدماي تؤلماني بشدة، عقب نهارات متعاقبة ومكتظة بالمهام، التي تمتهن جميعها الشفقة على كل صغير وكبير يسمعن صوته سوى أناتي، متوسدة أريكتي البنية الوثيرة، تحت شباك بالكاد تودعه الشمس شيئًا من وداعها في مقدمة مساء مثقل بالأفكار. أظن -وفي الظنون شيئ يساء فهمه دائمًا- أن الأحلام ما هي إلا أقدام خضراء نبتت لحاضر مثقل بالخطوات، بعد طول انتظار وضجر، لتحمله نحو غد غريب، ومستقبل لم يطالعه يومًا سوى في مرآة نومه، بعد مروره باختبارات الاستحقاق، عبر سجل مطول من الإخفاقات والمثابرة.

البراح والحرية

حينما كنت طفلة صغيرة نبت لي جناحان على جانبي جسدي، يومها أزكمت رائحة الاخضرار النَضِرة، أنفي، وبدا أن حيزي الضيق جدًا، قد ضاق به ذرعًا، وبدأ يبحث عن أفاق جديدة، كنبتة ظن زارعها أن الصوبة أحق بها من العراء الفسيح، لتكسر صوبتها مشهرةً سيفها في وجه الشمس.

هكذا تمامًا كنت.. طفلة عادية، ضمن طابور يضم ستة من الأخوات، تقف في الخندق الرابع منه، فلا هي الابنة الأولى لتنال ما يناله الأوائل من حفاوة الاستقبال، ولا هي تلك الصغيرة المدللة، التي تغرد أعلى التاج منفردة بصهوته. في الوسط تمامًا كنت، حيث تنتمي كل الأشياء العادية بشكل يدعو للضجر. الحلم بالنسبة لمن لهم نفس ظروفي، هو حيز البراح الأوحد، وقُبلة الحرية الأخيرة قبل الاختناق أو الاحتراق أيهما أقرب.

أرض الأحلام

الأحلام التي لا تنبت في أرضها تتحول إلى كوابيس

حينما شقت نبتة أحلامي صوبتها، مُشهرةً سيفها في وجه الشمس، لم تكن تعلم عن الأرض التي شاءت الأقدار أن تحتضن برعمها والشمس التي ستصحبها خلال الرحلة، أكثر من كونهما قدرًا، والأقدار -كما أُخبرت سلفًا- خلقت كي نتفاعل مع نتائجها بحكمة، لا أن نناطحها في حرب خاسرة.

وهكذا فعلتُ، رحت أتعامل مع الظروف الباعثة على الاعتياد وأحيلها طيورًا، لتحليقها عاليًا حكمة، وحدها تعلمها، ولا يشغلها أمر تفسيرها أو الإفصاح عنها. كنت أحلم أن أكون شخصًا مؤثرًا في هذا العالم المترامي، فكنت أبحث بنهم في قصص المؤثرين، وحينها تنبهت مبكرًا لحقيقة الأحلام التي يستحيل معها العالم ظلامًا، تلك التي يرويها الخيال من روحه فتظن بنفسها أشياء ليست لها، ثم تنمو وتكبر يومًا بعد يوم في السهول المنخفضة.

وما أن تشرئب بعنقها فتلفحها رياح عاتية لتُسقِطها أرضًا ميتة، أو ربما لتتحول لكوابيس تطارد صاحبها، مثل ما عبر عنها الأديب إبراهيم نصر الله مرددًا: “الأحلام التي لا تنبت في أرضها تتحول إلى كوابيس”، فالحلم في حد ذاته لا يكفي للتحليق عاليًا، وإنما عليك تمهيد البيئة المناسبة له قبل أن تشرع في تحقيقه.

مطاردة

خلال رحلتك في الواقع تبحث عن سبل كي تظل واقفًا. أما في أحلامك أنت تحارب كي تملك القدرة على الاتزان خلال حرب دائرة، تعلم يقينًا أنها لن تنتهي، تبحث عن ما هو أكثر من أمنك المؤقت، لذلك فأنت مأمور بالمطاردة، وأول ما يجب عليك مطاردته هي أحلامك، تلك البعيدة العصية على التحقق، التي تحلق تارة فوق رأسك لتحملك السعادة على جناحيها، ثم سرعان ما ترميها رياح هوجاء في أبعد ركن من الكون عنك، لتعتل جناحاك وتتقوقع حول ذاتك رافعًا جناحك الوهن، حتى تدب الروح من جديد في حلمك، لتسعى خلفه مطاردًا إياه بين السفوح ليتحقق، مثلما وعدك والت ديزني قائلاً:

ستتحقق كل أحلامك إذا كنت تملك الشجاعة لمطاردتها

لا تستصغر حلمًا

كما أن لديَّ أحلامًا كبيرة وعظيمة، أخشى عليها من السخرية والتهكم، لديَّ أيضًا أحلام صغيرة، وربما حتى “تافهة” بوصف آخرين، كحلم أورجواني برائحة اللافندر الساحر وهيئته، نبت على جناحَي ليحيلهما إلى جناحي فراشة تحملان اللون والسِحر ذاته، أن أجد ضالتي رفقة زوجي العقلاني، طويل القامة، نحو ذلك المكان المسحور بالرقة، في حيز ملؤه البراح، لا تعترف جغرافيته بالجدران كحدود لها، تجري المياه في أركانه بحرية، تجعل وقع ذراتها مسموعًا ما بين مرح وفرح، يعيد إحياءه كلما سكنت لحن هادئ، نسهر ليلتنا، منتعلين أحذيته الخفة عبر رقصة “سلو” لا تمل خطواتنا عبرها ذهابًا وإيابًا، نتبادل أطراف حديثنا خلالها همسًا.

هذا الحلم على صغر حجمه -أو إن شئت “بساطته” أو حتى “تفاهته”- هو بالنسبة لي دليل على طريق ملؤه العثرات، أهتدي به نحو ما لن أتنازل عنه في زوجي وحياتنا معًا، ويبعث في روحًا، لم أمل إيقاظها -حتى الآن- ويهوّن عليَّ ما أجد وأحاذر على طرق جانبية، لأحلام كبيرة أخرى.

كحلمي في أن تصير الكتابة بشكل احترافي مهنتي، أن أضع حدًّا لكل الأمواج المتلاطمة بداخلي، تلك التي أشك أنك سمعت صوتها يرتطم بالصخور بينما تتهدج مع سطوري قراءةً. أحب الكتابة وأشعر في غيابها، أني يتيمة مشردة، توسعني الوحدة ضربًا، وربما كان للكتابة تلك السطوة عليَّ، لكونها أكثر من مجرد حلم عابر عند المولعين بها.

أحلام كثيرة عجزنا عن تحقيقها، فتولت الأوراق تحملها – رباب كساب.

الأحلام المؤجلة

أحلامنا، حقائب “سانتا كلوز” خاصتنا، التي لدينا يقين فطري بأن سعادتنا مرتبطة ارتباطًا أزليًا بتحقيقها، نجر بعضها، خلفنا من عام إلى آخر، وكلنا يقين أن تحقيقها مسألة وقت لا أكثر، لكن أن يأتي شيء من العدم، ليُخبرنا أن العالم كله في مواجهة خطر داهم، سيؤجل غالبية خططه، وعليه: نحن أيضًا مطالبون بجر حقائب أحلامنا المؤجلة خلفنا، عام، أو ربما أكثر أو أقل، الأمر غير مدروس ومخطط حتى الآن، هذا وحده كفيل بمضاعفة ثقل تلك الحقيبة وضرب متعلقاتها في اثنين وربما عشرة حتى.

فالعالم -هذا المتطفل الذي يقف عادةً لأحلامنا بالمرصاد- يأتي هذه المرة ليُجبرنا على إرجاء خططنا وأحلامنا لأجل غير مسمى، بسبب وباء يداهمه. إذًا ففي الأمر شبهة مؤامرة، وربما نشم رائحة أبدية في الموضوع يجعلنا نردد في ريبة: “أنا لن أُحقق أحلامي أبدًا، وسأدفع فاتورة استسلامي للواقع وسطوته”.

خيبات الحلم

أحلامنا ككل الأشياء المتعلقة بنا، دمها موزع ما بين قبائل الخفوت والإشراق، فكما لأحد أحلامنا المُحققة صوت ورائحة عذبة لا تُخطيئها الحواس، لبعضها الآخر خيبات أيضًا، وسواء كانت الأسباب معلقة في رقبة، أكثر سطوة وبأس منا، كالزمن مثلاً، أو استحقت أن تُعلق على رقبة تقاعسنا، فإننا مطالبون بإعطاء الحزن حقه، فالحزن جراء الخيبات ليس شرًّا مطلقًا، وربما أضاء لنا ذلك الحزن “ضوءًا أحمر” على شيء أكثر إشراقًا في مستقبلنا.

لذا فعلينا ألا ننكر شعورنا بالحزن والفشل وقت ما حل بنا، لنقف ونواجه أحزاننا رجلاً لرجل، نخاطب أفعالنا وخطواتنا غير الموفقة، وندع الحزن يأخذ وقته تمامًا، وبعد أن ينقضي نخرج إلى العالم وفي جُعبتنا أحلام جديدة، ولا ننسى في رحلتنا انتقاء شركاء الرحلة بعناية شديدة، فشركاء الحياة هم الشعلة البديلة التي نهتدي بها، في حال تعرضت شعلتنا لانطفاء مباغت.

اقرأ أيضًا: أحلامي التى صارت كراكيب

المقالة السابقةمسلسل Modern love: عن الحب والدعم غير المشروط
المقالة القادمةالجواز من زاوية أخرى
منى وهدان
كاتبة وصحفية مصرية

1 تعليق

  1. تتشرف مؤسسة تاج الدين ان تقدم لكم كافة الخدمات القانونية في جميع القضايا والتي تتعلق بمحاكم الاسرة والاحوال الشخصية مع قضايا الطلاق والخلع وقضايا النفقات وقضايا الرؤية والضم وقضايا اثبات الزواج وغيرها …..
    وايضا مختصون في زواج الاجانب وتوثيق عقود الزواج في جميع الجهات المختصة وكمان لو عندك مشكلة في تجديد الاقامة هنحلهالك كل اللي عليك انك تكلمنا علي : 01093950433
    ارضي : 0223630873
    واتساب : 01554295049
    صفحتنا : https://tagelden.blogspot.com/2020/10/blog-post.html

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا