ما نحن إلا محض انعكاس صورتنا بأعين الغُرباء، هؤلاء من التقيناهم في حياتنا مُصادفةً، جاءوا إلينا عابرين ثم احتلوا مساحة كبرت أو صغرت ستظل دائمًا مُحددة ومؤقتة مهما أصبغنا على علاقتنا بأصحابها صفة الأبدية.
هكذا يعتقد/ يُصدق كثير من الناس، واضعين صورتهم بأعين الآخرين نَصب أعينهم يقومون وفقًا لها بالقياس! دون أن يحسبوا حساب كَون تلك الصورة -التي يراهم بها من حولهم- هي في الأغلب تقديرية، أي غير حقيقية، تحتمل النَقص والزيادة، أو حتى النَفي التام وهذا سواء كانت جيدة أو مُشينة، لأنها مَبنية في الأساس على مواقف ولحظات بعينها لا أكثر ولا أقل.
يتجاهل الغالبية العُظمى كل ذلك ليُصر مُرهَفو المشاعر على أخذ صورتهم بأعين الآخرين وانطباعاتهم بجِدية مُفرطة، تتسبب بالتَبَعية في إيذاء أنفسهم الهَشِّة حين يُصدقون متى قيل عنهم إنهم ليسوا جيدين بما يكفي ليستحقوا الحُب/المُعاشرة/أو أي شيء مما يحظون به، وأن شكواهم من أي شيء مهما بلغت قساوته ما هو إلا دلع ماسخ.
ولأن رأي الآخر بنا يهمنا ويُشكِّل جزءًً كبيرًا من فكرتنا عن أنفسنا نميل إلى تصديقه، خوفًا من كوننا إن لم نفعل وانحزنا لإعلان صفاتنا الطيبة أو اتهام الآخرين بسوء التقدير أن يوصمنا من حولنا بالنرجسية والكِبر.
كثيرة هي لافتات الوَصم التي يُعلقها لنا الآخرون مشانق يلفونها حول رِقابنا، ثم يجلسون باستمتاع يُراقبوننا كيف نُحاول الإفلات من الموت وَصمًا، ودون شك أو مُبالغة سنجد بحِسبة بسيطة أن أكثر أهل الوَصم من النساء، حيث يتعامل معهم أفراد المُجتمع باعتبارهم الطَرف الأضعف، والأكثر قُدرة على الانسحاق، أو إعادة التشكيل.
وعلى كثرة الاتهامات وعدم الاستعداد للتَفَهُّم والإصرار على أن أي عطب تشكو منه المرأة هو تَخيُّلي بالمقام الأول، أو مُبالغ في تقديره على الأقل، حتى إذا لم يكن من حولها معنيين بالأمر في الأساس، يظل الأكثر إيلامًا ردود فعل الآخرين، حين نشكو إليهم خطبًا نفسيًا ما، ونُخبرهم بحاجتنا إلى المُساعدة الخارجية لأننا عجزنا عن تحمّل ما يجري بداخلنا أو بمُحيطنا، سواء كان هذا النوع من المُساعدة يعني ضرورة البحث عن حلول حقيقية والذهاب لطبيب نفسي، أو حتى حلقات دعم لمن مروا بنفس ظروفنا.
قليلون هم من يستطيعون استيعاب أن المرض النفسي حقيقة علمية، مُثبتة تستدعي الذهاب لمتُخصص، وأنه ليس من المَنطق في شيء أن يُطالب من حولنا إقناعهم أولاً بوجود علة نفسية ما نشكو منها قبل أن يسمحوا لنا بالعلاج. الأمر يُشبه أن يشتكي شخصٌ ما من التهاب الزائدة الدودية، فيُطالبه من حوله بتَقَبُّل فكرة إن الزائدة صابته ورَب العرش نجاه وعليه أن يتحمل آلامه ولا يُبالغ في تضخيمها.
ورغم بديهية ما نتحدث عنه يظل من الصعب على مُعظم “الأهل، زملاء العمل، شُركائنا بالعلاقات”، فِهم كل هذا وحُسن التَصرُّف أمام اختيار المريض النفسي تعرية جُرح كهذا أمامهم، وغالبًا ما تتراوح تحليلاتهم “الثاقبة” للشاكي بشيء مما يلي:
البعُد عن الله/ الدين
أيًا كانت ديانتك، سيظل دائمًا وأبدًا الرَد الأول على من يشكو من الاكتئاب بـ”عشان أنت بعيد عن ربنا، عارف إنت لو اتوضيت وصليت، وقريت كلام ربنا هتتحسن وتبقى زي الفل ومش هتحس الحاجات الوحشة دي تاني”.
لا يُمكن إنكار أن القُرب من الله خير سَند، غير أنه في أحلك أوقات الاكتئاب وأمام شخص لا يرغب في الاستيقاظ من النوم أصلاً، لن يكون سهلاً أن يستجمع الشخص قواه ليُصلي أو حتى ليقوم بالدعاء. بالإضافة لأنه من الذي أَقر أن الأمراض النفسية حكرًا على غير المُتدينين.
الجنون
“أنتِ مجنونة وللا بتخرَّفي؟ ما كُلنا عايشين وبنمُر بنفس الظروف اشمعنى أنتِ اللي مش قادرة تستحمليها”، الجنون، أحد تلك الاتهامات التي يلقونها بوجه من يُعبِّر عن حاجته للاحتواء والعلاج النفسي، أياً كان ما تشتكي منه “إرهاق من دوامة العيال وشغل البيت اللي مبيخلصوش، اكتئاب ما بعد الولادة، شعورك بسوء اختيار شريك حياتك أو حتى عدم قُدرتك على الاستمتاع بالعمل الذي تأكلين منه عيش!”.
المُحزن أن يكون ذلك رأي أقرب الناس لكِ، والذين إن أصررتِ على موقفك سيُخبرونك أن كل تلك الهواجس بسبب قعدتك طول اليوم ع النت، أو الشلة الملمومة عليها، من تضع تلك الأفكار الفرفورة برأسك فتُصدقيها.
عدم الرضا/ البَطَر/ الدلع
سيقولون لكِ: “إنتِ بتدلعي، وهي مشاكلك دي مشاكل؟ ما تشوفي اللي حواليكي عايشين إزاي عشان تحمدي ربنا” (#مش_أحسن_ما_تبقي_زي_سوريا_والعراق)، وأن لديكِ الكثير من النِعم التي عليكِ أن تحمدي الله عليها، وفي النهاية المؤمن مُصاب، ومفيش حد بياخد كل حاجة لذا ابتلعي نصيبك من الوجع دون صُداع، ثم إن “البصة في وش أولادك وضحكتهم بالدُنيا، بُصيلهم وإنتِ هتخفِّي”.
وهنا تأتي مجموعة تساؤلات: كيف لإنسان أن يستعصي عليه فِهم شعور الآخرين بالتعب مع كل ما نخوضه بالحياة؟ كيف يرفض حاجة الآخر للتنفيث قبل أن يسوء الوضع ويحدث ما لا يُحمد عُقباه، ومن منحه الحق لذلك؟ والأهم ما العلاقة بين عدم قُدرتنا على احتمال ما يفوق قُدراتنا وموقفنا من النِعم التي لدينا!؟
وليت الأمر يقف عند إصرارهم على الاقتناع بوجعك ليوافقوا على منحك المُباركة وتركك تُجاهدين للشفاء، بل إنهم يُطالبونك كذلك بأن تحكي لهم همومك ليُساعدونك على حلها لأنك مهما كبرتي “لسه صغيرة ومش عارفة حاجة”، هم من لا يرون لديكِ مُبررًا للوجع يظنوا أنفسهم قادرين على تطييب النفوس!
ولإقناعك بذلك سيُخرجون لكِ الكارت الأخير من جُعبتهم، مُتَهِمين الطبيب النفسي بأنه دجال/ نصاب لن يُخبرك أبدًا أنك لا تشتكين من شيء، لأن من مصلحته أن “يشتغلك” حيث يتعامل معك كـ”سبوبة”، لذا سيظل يُقنعك أنك مريضة حتى آخر مليم بجيبك حتى لو كُنتِ فُلة، شمعة منورة.
ولكن أليس الطبيب النفسي معه حق؟
فكلنا مرضى نفسيين بدرجة أو بأخرى، الفارق أن البعض يُدرك ذلك والبعض لا، البعض يعترف لنفسه، البعض لا، البعض يرفض الاستمرار دون علاج، البعض الآخر يتحمل على أمل أن يُجازيه الله عن صبره بالآخرة، وهناك كذلك هؤلاء من لا يفعلون هذا ولا ذاك ويكتفوا بممارسة أمراضهم النفسية على من حولهم حتى بات المُجتمع أشبه بالمورستان!
عزيزتي الصامدة بوجه التحديات، والقوية رغم محاولات من حولك لفرض السيطرة عليكِ طوال الوقت، آن الأوان تكسري المرايات.
لا ترتضي بالوَصم أبدًا، تَصَدِّي له دون خجل أو تباطؤ، وثقي أن هناك كثيرين يُشبهونك أو سبقوك بآخذ دَرب كَسر المرايات، والأهم حاذري من أن تتحولي لواحدة من واصمي الآخرين، فما من أحد يملك الحَق أو النظرة الكافية لفِعل ذلك، كلنا نملك جانبنا المُظلم وجانبنا الإعجازي، لذا لا أفضلية أبدًا لبعضنا على بعض، ولا سُلطوية مُطلقة كذلك.