علاقتي بأبي لم تحظَ بالمثالية، ولم تكن تحت جناح العاطفة. افتقدت مثلاً أن يجدل لي أبي ضفيرة شعري، يشاركني ألعابي، يستمع معي لأغنية أحبها -حتى وإن لم تعجبه- أو يطرح عليّ بعض مشكلاته لأشاركه حلها كما تفعل أمي.
وأمور أخرى كثيرة تنازل عنها أبي وكثير من الآباء لصالح الأمهات، بحجج كثيرة:
– هذا من شأن الأم.
– الحياة المادية ضاغطة.
– أنا لا أجيد هذا.
– خُلقي ضيق.
وأثر هذا التخلي يبدأ بشرخ في العلاقة الرئيسة بين الأب والأم، لأن هذه المحطة من رحلة الشراكة توطد أو تزعزع المفاهيم التي بحثت عنها المرأة بزواجها، من سند ودعم وشريك.
ثم ينتقل الأثر إلى الطفل، لتصبح صورته الذهنية عن الأب هي ما تمده بها أمه، وما يلمسه من حقيقة غيابه، (لا أقصد بالطبع الغياب المادي ولكن غياب الدور المشارك في التنشئة).
نعم.. عانى الجيل الذي أنتمي إليه وما زال يعاني من آثار اختفاء الأب وراء ستار توفير الأمان المادي، تاركًا لنا صورة المخيف البعيد التي تستخدمها الأم في المواقف الكبرى أو للضغط.
وتخيلت أن جيلي لن يكرر ما عاناه.
ويرى علماء النفس أن تخلي الأب عن مهامه التربوية يورث الأبناء خللاً في النمو الفكري والاجتماعي.
يشير مثلاً “جولد ستابين” إلى أن الشخص عديم النضج الذي يتصرف بفجاجة وعصبية هو في الأصل طفل بأب غائب.
لا أنتوي هنا شن هجوم ما على الآباء، ولن أطيل في الأثر السلبي للغياب، ولن أفند أمراضًا نفسية كثيرة تصيب أطفالنا إثر هذا.
لكن سأصب ضوء الحديث على “الأب”.
المعنى.. المحور الخاص في حياة بهيجة.. واثقة.. حانية. في عمر الناجحين والمطمئنين ممن أعرفهم.
قبل أن أخط حرفًا في هذا المقال سألت أصدقائي ومعارفي -وهم كثر- عن ما يميز علاقتهم بكلمة “أب”
أنصت لكلمات الأمان، الطمأنينة، السند، الدعم، هالة الاستقرار، المرجعية.
وغيّر مساري كلمة أحدهم “اللي شبعان حنية مليان ثقة“. فوجدت أن كلمة “الأب” حلم في حياة الجميع.. نستمد منها الدفء وشعورنا بالاستقلال والنضج والمسؤولية. أو فراغ نحافظ عليه.
سيجموند فرويد يقول: “لا شيء في الطفولة مهم بقدر الحاجة للشعور بحماية الأب”.
من اللحظة الأولى يرى الأب طفله بعين لن تدركها الأم ولو أرادت لذلك سبيلاً.. إلى هذه العين سينتسب الطفل بشخصه وكيانه.
فالأب “الأب”.. ينهمك بكليته في خلق جديد يكسبه من روحه، ومن نفسه، ومن عقله.. يستطيع أن يضيف القيمة الأخلاقية والاجتماعية بشكل طبيعي لا تكلف فيه.
فيهيئ بيئة غنية بعناصر الاحترام والحب المتبادل بين الوالدين.. بهذه الحال لا يمنح الأب طفله/ طفلته أمنًا وسعادة فقط، بل يكسبه الطريقة التي سيعامل بها زوجته المستقبلية.
يؤسس علاقة مختلفة بينه وبين طفله.. يتجول معه في دماغه.. يقيم معه الحوار.. يشاركه مفاهيمه ووقته ووجباته.
هنا يستشعر الطفل أنه ذو أهمية في حياة أبيه.. ويبدأ في تكوين ثقته بنفسه.
يكون بطله المثالي.. لأن -صدقوني أو لا تفعلوا- “الأب في نظر أبنائه بطل، يقلدونه في كل شىء، في الحركة، في التصرف، في الأمانة، في التواضع، في كل السلوكيات، فالطفل يميل لاعتبار كل تصرفات أبيه مثالية، حتى دون أن يشعر الأب نفسه”.
يبذل الجهد ليظهر مشاعره لطفله، فيُقبل ويحتضن ويخبره أنه يحبه، فالأب ليس ماكينة صرف المال في حياة أطفاله، إنما مصدر للمحبة والأمان، ووتد قيام شخصية طفله السوية.
في الأخير.. لا أحد يعوض الدور المنوط به “الأب”.. فإذا لم نجد مفاهيم الأبوة من مصدرها المنزلي، لا نبحث عن بديل، ولكن نحفظ “الفراغ” الذي منحونا إياه كعتبة علوية مقدسة لم يكتب لنا الشعور بزهوها.