في رحلة اكتشاف الذات عادة ما نتعثر في حقيقة غريبة، هي أن أكثر من تأثرنا بهم في حياتنا هم أمهاتنا. تعيش الواحدة منا وهي تقوم ظاهريًا بعكس كل ما كانت تفعله أمها. تعمل إذا كانت أمها ربة منزل والعكس، تدلل إذا كانت أمها قاسية والعكس، تكون عاطفية عكس أمها أو تخبئ عاطفتها عكس أمها. لكن كل هذه المحاولات في التغيير لا تمحو أثر بعض العادات الخاطئة التي نرثها من أمهاتنا دون أن ندرك ونعيش بها نعاني، إلى أن تأتي لحظة الاكتشاف.
التحمل وعدم التعبير عن الألم
من الأفكار الغريبة التي كبرت عليها هي عدم الاعتراف بالشعور بالتعب. كانت أمي تعلمني أن الإفراط في قول “أنا تعبانة” عيب، لأنه “ميصحش” الناس تعرف إنك تعبانة. ولا أحد سيفعل شيئًا لأجل هذا التعب، فلماذا تحمّلينهم همّك وتعطيهم انطباعًا أنكِ ضعيفة لا يعتمد عليها ويمكن استبدالها. كنت أراها وهي تقاوم التعب وتخفيه وتحوله لضحكة باهتة، وكنت أقلّدها. كل آلام الأنوثة المبكرة ثم آلام الدراسة والسهر والمذاكرة والمشاوير، مرورًا بآلام الحمل وما بعد الولادة وقلة النوم والعمل والتوصيل، لم أفصح عنها إلا في نطاق ضيق للغاية، بل وكنت أبالغ في إظهار أنني بخير. الولادة كانت استثناء، اكتشفت فيها عمق كذبة أمي التي (من أجل أن تهون عليّ) لطالما قالت إن الولادة سهلة و”ساعة وتبقي في بيتك” وكنت بولد وأرجع أطبخ”.
لكني لم أعِ لحقيقة أنني فعلاً تعبت إلا عندما وجدت نفسي قوية كفاية لأتحمل تبعات هذا الاعتراف. القوة التي ملأت روحي ساعدتني على الإقرار بتعبي بسهولة وبلا خوف، وبتكرار جعل أبنائي بدلاً من الخوف يتعاملون مع تعبي على أنه طلب للمساعدة أو الهدوء، وليس استعراضًا لضعفي. الآن أصبحت أقول “أنا تعبانة” عندما أشعرها. لأنني عرفت أنني أقوى وأهم من أن يتم استبدالي.
اقرأ أيضًا: خمس قواعد لطلب المساندة
القلق والدخول في دوامة وهمية من الخوف
من الأفكار المؤلمة التي يتبناها بعض الأمهات بلا وعي، لأثرها في فكرة وضع أبنائهن دائمًا في حالة تهديد، إنهن سيرحلن ويتركنك قريبًا. من خلال نصائح ووصايا لما يجب عمله بعد موتهن، فكرة أنهن في كل تجمع يذكرن سيرة الموت بأريحية، يحكين عن أمواتهن وتفاصيل آخر يوم، كل مكان جديد يزرنه يعلنّ تخوفهن من أن يمتن فيه ولا يمتن في أسرّتهن، فكرة “عايزة أفرح بيك قبل ما أموت”، “عايزة أشيل ولادك قبل ما أموت”، الكلام الذي شبه “يلا حسن الختام”، “إحنا هناخد زمانا وزمن غيرنا”، حتى في الأحداث السعيدة تقال جملة “عشان تفتكريني بعد ما أموت”. ناهيك بالسلامات التي تأتي كأنها آخر سلام. كل هذا الاستنزاف النفسي يجعل الأطفال لا ينامون.
كنت عندما تخرج أمي من البيت أقف لساعات على الشباك أنتظرها وأدعي أن تعود. جعلني هذا كبرت وأنا أكره تمامًا سيرة الموت. أتعامل مع أولادي كأنني هنا للأبد، لا أرسل أي إشارة للموت، لا أقول كلامًا مؤثرًا أو وصايا ونصائح تخص موتي. تجربتي علمتني أن سماع الكلام يأتي بخوفك على مشاعر من تحب، وليس بخوفك على حياة من تحب. حتى الخوف من الأشياء الكبيرة كالمستقبل، والأشياء الصغيرة مثل تأخير أحد الأبناء في الخارج، هذه الدوامة اللا نهائية من القلق الأمومي أصبحت أقاومها بالإيمان وحسن الظن بالله. اكتشفت أن الأمهات لا يجب أن يكن عاطفيات في كل المواقف ويجررن وراءهن القلق في كل مكان، لأن هذا القلق يهدر الكثير من المشاعر.
الخجل من الجسد
هناك لحظة في حياة الفتاة تقف أمام المرآة وتكتشف فجأة أن الجسد الذي طالما لعنته بسبب نظرة أمها أو تعليقها عليه، هو جسد جميل وبه جاذبيته ومواطن جماله. قبل هذه اللحظة تنظر لجسدها على أنه ينقصه شيء، وفي الكثير من الأحيان لا تنظر إليه من الأساس، تعتبره عبئًا إضافيًا عليها الاهتمام به، مثل ترتيب غرفة نومها. تظل تذكر كل نظرة استنكار أو قرف تتلقاها من أمها عندما ترتدي ثيابًا جديدة، لأنها نحيفة أو ممتلئة أو ساقاها طويلتين أو قصيرتين، أو لأن لها -ياللعار- صدر ومؤخرة وأرداف!
أحيانًا تشير الأم بأريحية على منطقة ما من جسد ابنتها وتقول “ما هذا المنظر؟!”، في مخيلتها محتارة بين أنها تريد أن تكون ابنتها جميلة وتخاف أن تكون ملفتة، تريد أن ترى ابنتها كبيرة، لكنها لا تصدق أن هذا الجسد الصغير يتغير، تنتاب بعض الأمهات في هذه المرحلة حالة من القلق، تشدد وتنبّه على ابنتها ألا تلمس أي شيء من هذا الجسد الجديد، تتخوف من أن تغلق ابنتها باب الغرفة مخافة أن تحاول البنت أن تكتشف جسدها. تصدر لها رسالة غير معلنة أن “هذا الجسد ليس لكِ”.
بعد اللحظة التي تكتشف فيها الفتاة أن جسدها لا يستوجب الخجل، وعليها أن تتعرف إليه وتحبه وترتدي ما يناسبه، ويجعل ثقتها في نفسها أعلى. منذ أدركت هذا الأثر الأمومي في تجنب الجسد وأنا حريصة على الثناء على نحافة ابنتي وعلى شكل الثياب عليها، حريصة أن أترك لها مساحتها وأشير لها من بعيد على اللمسات التي تجعلها أجمل، حريصة على أن أذكر كلمة “جسدك”، ليس كشيء ثمين أو غامض أو ناقص، لكن بقدر من الاعتزاز كملكية خاصة وجزء من الكيان قيمته في قيمة صاحبه.
اقرأ أيضًا: التصالح مع الجسد: أهم صعوباته وخطوات تحقيقه
التنازل عن حقوقنا البسيطة
أراقب نفسي وأنا أشتري الحلوى لي مثل أولادي، كمكافأة بعد يوم عمل شاق أو واجبات منزلية مرهقة. أراقبني وأنا أنسحب من بين أسرتي لأفعل شيئًا يخصني وحدي، وأدللني بين الكثير من المسؤوليات. تجعلني هذه الأشياء سعيدة وهادئة وقادرة على المضي قدمًا في عطائي. أحيانًا يصيبني القلق لأن عطائي لا يقارن بعطاء أمي، لكن ما أن أتذكرها وهي تتنازل عن راحتها وتحققها من أجلنا أشعر بالفخر لأنني لم أتنازل.
تمرر لنا الكثير من الأمهات أفكارهن عبر سلوكهن الزمني الطويل معنا، كأم صغيرة تجدين نفسك منسحقة في تلبية طلبات أبنائك، دون أن تجدي الوقت لتستعيدي نفسك كإنسانة، تجلسين في أبعد مكان، ترتدين أقدم ثياب، تأكلين الطعام الذي يرفضون أكله، تتركين نفسك ليغلبوكِ في اللعب. مع مرور الوقت تتفاجئي أن أبناءك اعتادوا أن مكانك دائمًا في المؤخرة، وأن لهم الأفضلية عليكِ. مع مقاومة هذا السلوك والتعامل مع الأبناء كأصدقاء، ستجدين -زائد متعة المشاكسة- أنهم تعلموا قيمًا عزيزة، مثل المساواة والحق والتقبّل وحتى الخسارة.
التماهي غير المقصود
أحيانًا نكبر دون أن ننتبه: ماذا تحب أمهاتنا؟ ماذا يفضّلن؟ ما ذوقهن؟ ما نمط ثيابهن؟ ما هوايتهن؟ ما الذي يجعلهن سعداء سوانا؟ في الكثير من الأحيان تعيش بعض الأمهات في هذه الحالة من الزهد المقصود وغير المقصود، فلا تترك لأبنائها غير ذكريات الحنان والمحبة. تطمس سماتها الشخصية خصوصًا أمام أبنائها، الذين عادة لا يلاحظون تفضيلات أمهاتهم إلا نادرًا. تترك الأمهات أنفسهن للتماهي، فنبدأ نحن بالحزو نحو نفس السلوك.
لكن كأم اكتشفت بعد طفلين وثماني سنوات من التماهي أنني أريد أن أكون أنا، أن أجعل أبنائي يعرفون ماذا أحب وكيف أحارب من أجل أن أفعل ما أحب، أن أشركهم في اختيار ثيابي ونمطي في الظهور، أن أتحدث معهم مرات كثيرة عن الهوايات التي تحدد ملامح شخصيتهم وحياتهم، لا الهوايات التي تشغل وقتهم فحسب. حتى أمي بدأت ألفت نظرها للأشياء الجميلة التي تميزها، وبدأت تعبّر أخيرًا عما تحب أن تمارسه، بل ودفعتها لتختاره بدلاً منا أحيانًا.
الخطأ أمر غير وارد ويستلزم جلد الذات
أحيانًا أتخيل أن بعض الأمهات قديمًا وقعن في بئر من الأخلاق الحميدة، وخرجن منه وهن مصممات على أن أبنائهن لا يجب أن يقعن في الخطأ أبدًا. وأن أي خطأ يعني تقصيري كأم وجلدي لذاتي، وتقصيره كابن وجلده لذاته. يجب أن نشعر جميعًا بالخزي والعار أمام الأخطاء، لأن هذا للأسف هو ما سيحمينا من تكرارها.
كثيرًا ما نسمع أمهاتنا بوضوح في منتصف الليل وهن يمارسن طقوس جلد الذات بالبكاء والتضرع والقلق، نصاب نحن بدورنا بنفس الأعراض ويصبح الخطأ مقصلة كبيرة تنحر صورتنا الذهنية اللطيفة عن أنفسنا. نردد بداخلنا “أنا كاذب”، “أنا قليل الأدب”، “أنا مهمل”، “أنا مجرم وقاطع طرق وسفاح”… إلخ. نكبر ونحن نتحسس مكاننا بين الطريق المستقيم والندم وجلد الذات. حتى نصل للحقيقة المطلقة التي تجلت لي يوم قرأت كتابًا عن تربية الأطفال، وكان من أهم فصوله فصل بعنوان “من العادي أن نخطئ”.
بدأت تطبيق هذه الجملة على أولادي، فلم أغضب منهم ولا جعلتهم يشعرون بالغضب تجاه أنفسهم، ثم بدأت في تطبيقها على نفسي. ربما لم أستطع تمامًا التخلي عن جلد الذات، لكنني على الأقل أصبحت مدركة أنه طقس موروث وليس حقيقة أؤمن بها. من الطبيعي أن أخطئ حتى أتعلم، من الجميل أن أجد أبنائي يدركون عاقبة الكذب والإهمال وغيره، بشكل عملي وبطريقة تجعل الأمر غير مأسوي لكنه يتحرك بداخلنا كغريزة تجاه الميل للتصرف بشكل صحيح، ليس خوفًا من أن نفقد صورتنا في أعين الناس، لكن لأننا جربنا الخطأ ولم نشعر بالارتياح.
اقرأ أيضًا: 6 نصائح لتدريب طفلك على التعلم من الأخطاء
التفضيلات.. يجب أن يكون هناك شخص مفضل
بعضنا وجدنا أمهاتنا يبالغن في الاهتمام بشخص محدد. أخ، زوج، ابن، أب. ومقابل هذه المبالغة يكون بعض الإهمال لمشاعر الآخرين. تشعر الأمهات قديمًا أن هذا سلوك طبيعي، لأن أمهاتهن كن أيضًا يفضلن فلانًا أو علانًا. فيتصرفن بنفس الطريقة مع بعض المبالغة. مثال البهجة والولع الذي تقابل به “فاطنة” ابنها “عبد الوهاب” في مسلسل “لن أعيش في جلباب أبي”، ومثل أمي التي كانت تضع كل الطعام أمام أخيها في العزائم فنضحك جميعًا، لكنني بداخلي أعرف أنها تحب أن تفضل شخصًا ما.
ناهيك بتفضيلات الأمهات للأبناء الذكور، أو تفضيلهن للأب وتأليهه على حساب الزوج والأبناء. وهذا ما يؤدي إلى الغضب الكامن في الأسرة الواحدة. لذلك تقاوم الأم الصغيرة الواعية هذه الفكرة بقناعة، وتعامل كل من تحبهم بنفس القدر من المشاعر والعطاء، حتى لا تترك الفرصة لتسلل الغضب، وحتى تشعر في قرارة نفسها بإقامة العدل، وهو شعور لا يعوض.
الترهيب من الأماكن والناس
ما زلت أذكر أمي وهي تقف جواري وأنا أتحدث لصديقتي على الهاتف، لتدفعني أن أنهي المكالمة بسرعة، المكالمة التي كنت أتحايل عليها أن تتم ربما لعدة أيام. الذهاب مع صديقات إلى النادي أيضًا كان يستلزم مسيرة يومين من الإقناع. الخروج مع الأهل له محاذير حتى لا أتجاوز حدًا ما وأتصرف كأننا أسرة واحدة. بعض الأماكن محظورة مثل السينما.
كثير من الأمهات يخفن على أبنائهن من الأذى الخارجي، فيحاوطنهم بسياج الترهيب من المجتمع، بجمل ليست ذات معنى، مثل “لا تتحدث كثيرًا عن حياتك حتى لا يحسدوك”، “لا تطل الحديث حتى لا تخطئ”، “لا تحك أدق التفاصيل حتى لا يعرفون نقاط ضعفك”، “الزم الحدود حتى تتجنب المشكلات”، “أنت شخص مدلوق على الناس ومن خلفك ينقدونك ويكرهون تطفلك”، “ابق خفيفًا مع الناس”.. وهي نصائح لا تناسب أطفالاً يبدؤون في فهم الحياة والناس، لأنها تدفعهم لأمر واحد. البعد عن الناس وعدم الثقة في النفس.
يؤدي هذا إلى أننا أحيانًا نكبر فنجد أنفسنا بلا كثير من الأصدقاء، بلا شخص نثق به ونعتمد عليه. تلمّح الأم إلى خوفها من كونك شخصًا ليس له أصدقاء، وفي نفس الوقت تؤكد أنه “اعتمد على نفسك”، “هو كان من بقية عائلتك؟”، نفاجأ بأننا مصنفون على أننا أشخاص غير اجتماعيين، ونختار إما أن نبقى على هذه الصورة ونورّث نفس السلوك لأبنائنا ونعيش لأسرنا فقط، وإما أن نتمرد على هذا السلوك ونقيم الصداقات وندرك حقيقة وروعة القرب من الناس. وأنه لا معنى للحياة بدون أصدقاء في حياتك.
اقرأ أيضًا: كيف تلتئم: محاولة إيمان مرسال لمواجهة أشباح الأمومة
من الصعب أحيانًا الوصول لفكرة أن أمهاتنا كان لهن أخطاء في التربية، ربما لأنهن قدمنّ كل المتاح لديهن من مشاعر وخبرات في ذلك الوقت. ربما ما أتيح لهن من معرفة وتجارب لم يكن كافيًا، وربما لأننا لم نجد شرح أنفسنا معهن. لكن حتى هذه الأخطاء لا تعني أبدًا الفشل، بدليل أنهن ربين أجيالاً أكثر وعيًا وأكثر حرصًا على إقامة صداقة مع أمهاتهن وبناتهن.
في طريقك لمعرفة نفسك ستسعدين حتمًا إذا تخلصت من هذا الإرث المضني من الأفكار القديمة، التي تؤثر على ثقتك في نفسك، وتوقفين تمريره لأجيال قادمة، وتصبحين أكثر اتساقًا مع الحياة ومتطلباتها وروعتها.