يا روايح الأكل الجميل هفهفي

817

عندما نفكر في الطعام تداعب أخيلتنا مناظر الأطباق الشهية وكرنفالات الألوان التي تُشكلها تلك الأطباق، ويبدأ اللسان باستحضار مذاقها واللذة التي كانت عليها، فماذا عن الرائحة؟ هل تستحضر رائحة البيتزا مثلاً عندما تشاهد صورة مغرية لقطعها التي تتمطى لتغويك بكل الجبن الذائب الذي يحتويها؟ هل تستطيع أن تلتقط رائحة الخَبز الجميلة التي تحتضن البيت كأمٍ حنون؟ إن كنت تستطيع ذلك، فهنيئًا لك، علاقتك بالطعام علاقة خاصة قلما توجد.

 

رائحة الطعام بالنسبة إليّ أشبه ما تكون بالإعلان الدعائي للفيلم (التريلر)، الإعلان الدعائي لأي فيلم قد يحمسك لمشاهدته أو قد يجعلك تصرف النظر عنه للأبد، كذلك روائح الطعام. هناك رائحة تجعلني أنتظر نضج الطعام على أحر من الجمر، وهناك رائحة أخرى تجعلني أرغب في الفرار من البيت فراري من الأسد. وهناك روائح أخرى تذكرني بأشياء وأحداث يفوق جمالها متعة الأكل.. وعن هذه الروائح سوف أتحدث.

 

رائحة الشاي 

من الصعب أن أكتب عن الطعام ولا يكون الشاي أول ما أذكر، الشاي أكثر من مجرد مشروب ساخن في حياتي، الشاي صديق قديم موجود دائمًا وأبدًا ليمنحني دفئه، حتى أنني لفرط حبي له أعلنها دائمًا “لو كان الشاي رجلاً لتزوجته”.

 

عن رائحة الشاي يمكن أن أكتب قصيدة غزل من العيار الثقيل، فرائحة الشاي بشكلٍ عام تعني الدفء، ليس الدفء المادي فحسب، بل أيضًا الدفء المعنوي الممتزج بالمحبة، أتذكر هنا مسلسل “The Mentalist” حيث قال البطل عن الشاي عبارة رائعة Tea? , It’s like a hug in a cup” ” نعم كوب من الشاي أشبه بالحضن الذي ينزع عني متاعب اليوم بأكمله.

 

في غزة من النادر أن يتم تناول الشاي دون إضافات، لا بد من إضافة صغيرة تجعل الشاي أروع، قد تكون هذه الإضافة نعناعًا، مرمرية، عود قرفة، أو بعض حبات الهيل (الحبهان)، ومع كل إضافة تختلف الرائحة.

رائحة الشاي بالنعناع تذكرني بالليالي الصيفية التي نهرب من حرها للأماكن المفتوحة، ورائحة الشاي بالمرمرية تذكرني بليالي الشتاء والمطر، أما عن رائحة الشاي بالقرفة فهي رائحة تذكرني بالفرحة والبهجة، فمن العادات الفلسطينية أن يتم الاحتفال بالعريس عدة ليالٍ قبل ليلة الزفاف، وفيها يوزع الشاي بالقرفة الذي يُعد على الجمر على الضيوف المهنئين، أخيرًا رائحة الشاي بالهيل يُذكرني بأن بعض التجارب على غرابتها قد تكون رائعة، فمن يصدق أن إضافة الهيل للشاي يجعل طعمه مميزًا.

 

رائحة القهوة

لأعترف لكم أني لست من عشاق القهوة كمشروب، لكني أهيم حبًا برائحتها، ابتداءً من رائحة البن أثناء التحميص، وانتهاءً برائحتها وهي تغلي استعدادًا للتحول لمشروب سحري يفتن الكثيرين.

 

قبل عدة سنوات كنا نُعد القهوة في المنزل، ننتقي أحد أجود أنواع البن الأخضر، تقوم أمي بتحميصه فأجلس بجوارها أستمتع بالرائحة الذكية وطقطقة حبات البن المثيرة، يُضاف الهيل في آخر مراحل التحميص، ثم يُطحن البن المحمص فنحصل على قهوة في غاية الروعة، تظل رائحتها في المنزل لعدة أيام. سافرت أمي، واختفت رائحة البن المحمص، واعتمدنا على قهوة “بدري وهنية” (نوع قهوة مُحلّى في غزة)، وكبرتْ وارتبطت القهوة عندي بأيام الامتحانات، فلم أعد أحبها، رغم كل ذلك في بعض الأحيان تذكرني رائحة القهوة بقول أمي لي إنها لا تستمتع بتناولها إلا من يدي، وهنا تصبح رائحة القهوة رائحة للافتقاد.

 

رائحة الخَبز

رائحة الحنية والدفء، رائحة الونس، فرائحة المخبوزات أيًا كان نوعها ابتداءً من الخُبز وانتهاءً بالكيك تحتضن المنزل، تطرد من جنباته الوحدة والحزن. أتذكر أني استيقظت يومًا وأنا في غاية الحزن، تتملكني وحدة رهيبة، لم يكن هناك سواي بالمنزل وكانت الساعة تشير للسادسة صباحًا، لم أعرف وقتها ماذا أفعل لأخفف عن نفسي وحدتي، فألهمني الله أن أخبز بعض الكيك، وفعلت. بدأت وحدتي تُبدد شيئَا فشيئًا أثناء إعداد الخليط، ومع رشة الفانيليا كانت قد اختفت تمامًا، وحينما وضعته في الفرن، وبدأت رائحة الخَبز تنتشر في المنزل، كنت في أحسن حال، وقد أحاطتني تلك الرائحة طوال اليوم بحنانٍ جميل لم أستشعر معه وحشة أبدًا.

 

رائحة التقلية

في بداية حديثي قلت إن رائحة الطعام أشبه ما تكون بالإعلان الدعائي لفيلمٍ ما، حسنًا أستطيع القول إن رائحة التقلية تشبه إعلان فيلم +18، فرائحة التقلية هي رائحة الإثارة بلا شك.

 

التقلية قد تكون للملوخية، البامية، الفتة، الكشري، الكِشك وأكلات عدة لا تسعفني الذاكرة الآن لسردها. وهي أكلات يجتمع كُثر على حبها، فمن يستطيع مقاومة إغواء الملوخية، أو قوة البامية، أو السطوة التي تفرضها الفتة على المائدة، من يستطيع أن يقول لا لشقاوة الكشري أو جمال الكشك. رائحة التقلية سواء صدرت عن منزلي أو أتت من بيت الجيران فهي تبهجني، وتجهزني لتناول طعام حقيقي أصيل لا يمكن مقاومته.

 

رائحة البيتزا

رائحة اللمة الحلوة، فالبيتزا مرتبطة باجتماع العائلة أو اجتماع الأصدقاء في انتظار القطع الحلوة الشقية، وفي أسوأ الأحوال اجتماعي باللاب توب والسرير وفيلم جميلٍ، وهي لمة ليست سيئة على الإطلاق لو تفهمون ما أعني.

البيتزا يعني إغراء الجبن الذائب، وكرنفالات ألوان مكوناتها التي تتجهز حسب رغبتك، وشقاوة الأعشاب العطرية، فلا عجب أن تكون رائحتها رائحة للسعادة والبهجة، رائحة تذكرك بالأوقات الجميلة التي قضيتها وحدك أو في مجموعة.

 

الحديث عن الطعام وروائحه يطول، فقد تعلمت الطهي مبكرًا على يديّ والدتي، ونشأتي جعلتني على دراية بالمطبخ الفلسطيني والمطبخ المصري، أطبخ منذ أكثر من اثنتي عشرة سنة، وأحتفظ في ذاكرتي بروائح كثيرة جدًا، أُحسن ربطها بالأحداث والأشخاص والمشاعر.

 

في النهاية.. أذكر نفسي وإياكم أننا نأكل حتى نعيش، لا نعيش لنأكل، لذلك تأنَّ أثناء الأكل، املأ رئتيك برائحة الطعام، وأعطِ نفسك وقتًا لتتمتع بشكله، ثم تلذذ بأكله رويدًا رويدًا، بذلك أنت تضرب عصفورين بحجر، تتمتع بالطعام بكل جوارحك، وتعطي الفرصة لعقلك أن يستقبل رسائل الشبع فلا تأكل أكثر من حاجتك، وبذلك تجني المتعة وتكسب الصحة.

المقالة السابقة8 خطوات لتحصلي على قطعة القماش المثالية لتفصيل الملابس
المقالة القادمةفي الأبوة فراغ نحافظ عليه

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا