آفة علاقاتنا الكتمان

1007

"يقولون إن كل شيء تكتمه في قلبك يأخذ من عافيتك"، كانت تقولها لي أمي بطريقتها التلقائية، كل يوم قبل أن أتزوج ويصبح لي منزل
وأسرة، تقول لي بإصرار "اتعلمي تفضفضي وتحكي عشان قلبك ميشلش ويتقل ويقفل وتتعبي".. كنت أستمع لها وأتجاهل النصيحة، أو
بمعنى أدق لا أعرف كيف أطبقها وكيف يمكن للكتمان أو عدم البوح بالمشاعر أن "يقفل القلب ويتعب الروح".

حتى بدأت عملي في آخر عام جامعي لي، تعرضت لمواقف جديدة تمامًا، أحببت وغضبت وظُلمت ومررت بتجارب زادتني نضجًا
وعمرًا فوق عمري، ولم أكن لأتعلم منها دون أن "أحكي وأفضفض" لشخص مقرب مني، كانت وما زالت أختي الوسطى هي أول
المستمعين لي ولا أستطع أن أكتم عنها شيئًا.. علمتني أمي بقصد أو دون، أن الكتمان آفة ومرض، يُلحِق الأذى بصاحبه أولاً.
وأعني هنا كتمان المشاعر والحديث المطلوب، وليس الكتمان المحبب في بعض الأشياء لإتمامها.

بعد أن تعلمت البوح بما في قلبي أولاً بأول، أصبحت على يقين بأن العلاقات الشخصية تحتمل أي شيء إلا الكتمان، الكتمان يحوِّل القلب
إلى كوب ممتلئ عن آخره، سيأتي يوم وينكسر ساكبًا كل ما فيه في فوضى عارمة، مما يعني شرخًا أبديًا في العلاقة أيًا كان نوعها.

هؤلاء أصيبوا بآفة الكتمان.

أجلس داخل معمل تحاليل، أنتظر دوري وأتأمل وجوه المحيطين بي، يلفت نظري رجل في منتصف العمر مع زوجته، يبدو التوتر
واضحًا جدًا على طريقة جلوسه وحديثه مع مسؤولي المعمل، زوجته تنظر إليه باستغراب، ألتفت بنظري بعيدًا عنهما حتى لا يلاحظا،
يذهب الرجل لدورة المياه وتأتي الطبيبة بنتيجة التحليل، تسألها الزوجة عما بها، فتجيب إنه -للأسف- ورم خبيث، تُصدم وتصمت ويأتي
زوجها، تعطيه النتيجة وهي تدمع، وتردد كلمة واحدة فقط "كنت مستني تقولي إمتى؟! مش هتبطل تخبي عليّ كل حاجة كده!"، ينظر
الزوج في الفراغ ويخرجان من المعمل وقد انطفأت لمعة عينيهما، أظن للأبد. إذا لم يكن هذا وقت البوح للشريك والسند.. فمتى؟!

كعابرة غريبة على موقف هذين الزوجين، ألتمس العذر للزوج وألتمس ضِعفه للزوجة، أتنهد في ضيق وأنا أتخيل السيناريو القادم لهما
معًا.
الكتمان يوجع القلب، الكتمان يخلق الصمت، والصمت يجذب سحابة الضيق كالمغناطيس.
كتمان الحب لعنة.

عامان مرّا على صديقتي التي صادف حظها رجل مصاب بالكتمان، كتمان المشاعر، ويا لها من لعنة! عامان تنتظر منه كلمة واحدة
تبلور تصرفاته معها، عامان من الكر والفر، وهو ما زال يكتم مشاعره في كل مرّة يكون على شفا اعتراف بها، عامان تحولت خلالهما
صديقتي المرحة البشوشة القوية، لأخرى باهتة وعصبية وغاضبة منه وعليه، تتساءل يوميًا لماذا هو كتوم لهذا الحد، ولا تعرف كيف
تبتعد، كأنها لعنة ليس لها حل أو نهاية.

نموذج آخر من العلاقات اللي تآكلت بفعل الكتمان، زوج وزوجة تبدو حياتهما الزوجية مثالية جدًا للمحيطين.. ولكن في المنزل لكل منهما
حياته الخاصة المنغلقة، الزوج مصاب بآفة الكتمان، كتمان كل شيء يخصه، لا تعرف زوجته هل هو سعيد أم غاضب أم متعب أم يفكر
في أمر ما.. تقول لي "15 سنة جواز كل يوم أسأله مالك، طيب فضفض معايا، اشركني في حياتك.. والرد متشغليش بالك مبعرفش
أفضفض.. لحد ما في يوم صحيت مكررة إني هعيش لنفسي وولادي وبس، هو خرجني برّة دايرة حياته وقفل على نفسه، وبالنسبة ليّ هو
شخص غريب عني من زمان.. لا بفرحله ولا بزعل لزعله".

تنهي حديثها وقد أصابتني غصة في قلبي، أتخيل كم تحملَتْ من ضغط وثِقل في قلبها من أقرب الناس إليها! كيف ينامان ويأكلان ويذهبان
للتسوق وينجبان الأولاد ويذهبا للمجاملات الاجتماعية؟ كيف يعيشان حياة كاملة هكذا؟
أسألها أن تحاول مرة أخرى وتساعده على الحديث أو تتحدث هي.. فيأتي ردّها القاطع "قلبه جامد وأنا قلبي صدا من ناحيته"، أصاب
قلبها الصدأ، وأصابت علاقتهما العطب.
فعلت بهما آفة الكتمان ما فعلت.. فلا تتركوا قلوبكم وقلوب من يحبونكم عرضة لها، فضفضوا لأحبائكم تصحوا.

المقالة السابقةوأدخلنا في التجربة
المقالة القادمةاشتباك.. مقطع أفقي في مصر بعد تلاتين ستة
باسنت إبراهيم
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا