اشتباك.. مقطع أفقي في مصر بعد تلاتين ستة

357

عزة

تم نشرة في 09/16/2016

وقت القراءة : 4 دقيقة

محاولات عديدة بذلتها في كتابة مقال في النقد الفني، فطالما أحببت السينما، لكني لم أمتلك أدواتي النقدية للكتابة عنها، فكثيرًا ما أحببت فيلمًا ووُجِعت بأحداثه دون معرفة سبب تأثُّري به، وبالتالي لم ترَ مقالاتي الفنية النور. لكن فيلمي الأخير أثار حفيظتي ودفعني للكتابة عنه، خصوصًا أن الفيلم دار حوله لغطٌ كثير ما بين معارض ومعارض بشدة، حيث لم أسمع بعد صوتًا لمحبي الفيلم.

ربما لن يكون مقالاً نقديًا بمعنى الكلمة ولكنها رؤية بعين المُشاهِد العادي، أو كما يقال مُشاهِد الشارع.

اشتباك.. الاسم الذي لخص الوضع القائم في مصر بعد 30/6.

 

تحذير

– إن كنت تعاني فوبيا الأماكن المغلقة فحاذر أثناء مشاهدة الفيلم، فعن نفسي قد شعرت بالاختناق وكأني معهم داخل عربة الترحيلات.. (هذا بفرض أني لست معهم بالفعل).

– المقال ربما يحرق بعض أحداث الفيلم.

 

القصة

إذا بدأنا بالقصة، فالفيلم أثار أشجانًا كنا قد نسيناها، أو هكذا أقنعنا أنفسنا لنتمكن من المواصلة.

لم أرَ الفيلم كما هو بصورته المباشرة التي أثارت غضب المعارضين، وإنما شاهدتُ له وجهًا رمزيًا، فالفيلم كما رأيته ليس داخل عربة ترحيلات، وإنما هو داخل مصر بعد 30/6، كلنا محبوسون، كلنا مخنوقون، كلنا بإنسانية مُداسة معلقة أرواحنا في أيدي سلطة غاشمة لا تُفرِّق بين وطني وخائن.. مؤيد ومعارض.. عميل ومواطن.. كلنا نتعارك ونتبادل الاتهامات ونطحن بعضنا داخل حبس طاحن بطبيعته أصلاً.

 

الشخصيات (مشاهد من داخل عربة الترحيلات)

أجبرني الممثلون على تنحية انتمائي السياسي بأدائهم المبهر، نسيت غضبي من فصيل أو إشفاقي على آخر ونسيت حتى استغبائي للبعض، شاهدت مبررًا لكل مخطئ، حتى الإرهابي المحرِّض صاحب الهتافات الإرهابية استطاع انتزاع تفهّمي وربما -أقولها على استحياء- انتزع تعاطفي أيضًا، بمجرد ظهور آثار التعذيب على ظهره، وحكيه باعتيادية عن ولده الشاب الذي لم يشهد نشأته لاعتقاله.

 

– الصحفي الذي رغم حصوله على الجنسية الأمريكية فهو مُسلسل هنا في شباك عربة الترحيلات، لمجرد أصوله المصرية وانتمائه المُتجذِّر داخله رغمًا عنه وعن والده المتوفّى الذي أوصى بدفنه في مصر.

 

– البلطجي ذو الوجه المُرعِب بالموسي داخل فمه الذي بدا فجأة داخله الليِّن لحزنه على كلبه الذي تاه في مظاهرات الإخوان، فحنقه على حكم الإخوان وعلى الصحافة وعلى العالم الذي لا يعبأ به مُبرَّر ومنطقي وملموس. وإن كان الأداء سطحيًا في ذلك المشهد لا يليق بممثل بإبهار خالد كمال لكن الحدث مقنع وموظّف جيدًا.

 

– الشاب السمين الذي حاول وفشل في إيجاد نفسه في الغناء وفي التمثيل واحتضنته الجماعة.

 

– الشاب الذي مات والده في عربة ترحيلات مجاورة وأخوه المفقود الذي ظهر مؤخرًا ومات على أيدي الجماهير الهمج، فخرج من انتمائه الإصلاحي وأعلن فجأة توجّهه المتطرف مستعدًا للموت فقط في سبيل الانتقام.

 

– الرجل المسن الذي زال عقله خوفًا على ابنه وعلى تجارته وعلى استقراره الزائف، فأخذ يلعن في كل من معه داخل العربة ويلقي باللوم على الجميع، رغم انحشاره معهم داخل نفس القفص. وحتى رغم معرفته في النهاية بانضمام ابنه للجماعة وهو يردد “تسلم الأيادي” لينجو بحياته من همجية الجماهير.

 

– أيضًا دور الطفلة ذات التوجه الإخواني واستسلامها لحظات لسقوط حجابها ثم استسلامها للتبوُّل داخل ملابسها بعدما سقط أبوها أثناء الضرب.

 

– الفتى المُدلل ساكن التجمع الخامس وصاحب الكلب، ومؤيد الحكم العسكري، وخاله اللواء الذي لم يستطع إفلاته من أيدي السلطات. وإعجابه بالبنت الإخوانية لحظة سقوط حجابها ورؤيتها على طبيعتها.. عارية من انتمائها السياسي.

 

أفضل دور “منَّص

أكثر الأدوار التي تأثرت بها دور الفنان الصاعد أحمد مالك، أو منّص، الشاب الذي ينحت الصخر ويستغل أي فرصة لكسب العيش، حتى أنه وزَّع كارته الشخصي داخل عربة الترحيلات تحت ضرب الغاز لإقامة الحفلات والأفراح والطهور. شاب بلا أي موارد رفض قعدة القهوة والانجرار مع ماتشات الكُرة وجرى وراء رزقه للفوز بحبيبته.. التي رفض أخوها تزويجه لها، أخوها المحبوس مع منص داخل نفس القفص.. نفس الوطن.

 

المشهد العبقري الذي دفع زوجي للتصفيق في دار السينما رغم كرهه للفيلم وتحيّزه ضده، مشهد منّص وهو يشاهد الضرب من كل الاتجاهات وكل الأطياف، فيتوه بين تحديد الظالم من المظلوم، فأخرج موبايله وألصقه بأذنه على مهرجان “هاتي بوسة يا بت هاتي حتة يا بت”. ما أطلق لساني لأقول كتسمية للمشهد “الهروب الكبير”.

 

نيللي كريم

بالطبع لم يعد منافس في أدوار الغضب والصراخ والهياج العصبي للفنانة نيللي كريم، من أول بعض المشاهد في مسلسل “ذات” مرورًا بـ”سجن النسا” و”تحت السيطرة” و”سقوط حر”، وحتى دور الممرضة في “اشتباك” التي ألقت بنفسها في أيادي العساكر لتدخل مع ابنها العربة.

 

يمكننا القول بأن نيللي كريم لم تكن فقط بطلة الفيلم، وإنما هي الشخصية الأساسية في مصر حاليًا، امرأة عاملة مطحونة، أم متفانية، مؤيدة للاستقرار على حساب أي شيء، بفَهمٍ محدود وتعليم متوسط وانتماء غير مفهوم حتى بالنسبة إليها.

 

محاباة الفيلم للسلطة

قد يكون أظهر الفيلم السلطات أخف وطأة من الواقع، لكن ربما يكون نوعًا من المواربة لتمرير الفيلم من الرقابة. فالتهديدات السادية قيلت على لسان الضباط بكل فجاجة، والتلويح بجرائم صدرت من بعض الضباط في الواقع قيلت في الفيلم دون تزيين للحقيقة. كالتلويح بحادثة الضابط الذي ضرب قنبلة غاز داخل عربة ترحيلات.

 

لكن حتى السلطة وأدوات السلطة طالتها يد القهر.. المجندان المحشوران معنا داخل نفس السجن المطحونان داخل نفس الطاحونة المُسمَّاة مصر. المجند المسيحي الذي أخبأ صليبه خوفًا من الإخوان. العقيد المُتوفَّى وتبليغ أهله بالخبر في مشهد عابر سريع وكأنه أمر اعتيادي طالما تكرر في تلك الأثناء.

 

مشهد النهاية:

نهاية الفيلم بكادر xo واللعبة الدائرة بين طفل لعائلة عادية تدعم الاستقرار ولو بأي صورة، وطفلة لعائلة ذات توجّه إخواني أو مُحبة للإخوان.

نهاية مفتوحة تُلخِّص شكل الأرض التي نقف عليها الآن.. اللعبة ليست دائرة بين عسكري وإخواني بل بين مؤيد للعسكر ومؤيد للإخوان.

كلنا في نفس اللعبة، بنهاية مفتوحة.. بلا فائز.

 

وأخيرًا أستطيع أن ألخص وقْعَ الفيلم عليّ في جملة واحدة طالما رددتها.. أرضها كالطواحين لا تدور إلا بالدم، هذا إن اعتبرنا أنها ما زالت تدور، لكن الحقيقة أنها رُحى تدور فوق نفوسنا، وها قد تكدست بلعنة الدم فباتت تُنذِر بالانفجار، أو ربما تنقلب رأسًا على عقب كما انقلبت عربة الترحيلات في نهاية الفيلم بلا سائق في مشهد تغيّبت عنه السلطات.

 

المقالة السابقةآفة علاقاتنا الكتمان
المقالة القادمةأوبرا وينفري.. أوسكار أنجح ست

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا