وأدخلنا في التجربة

345

بالطبع أزرار القميص الذي لم نرتدِ يومًا أبهى وأزهى ألف مرة من قميصنا المُفضَّل المعتاد. كذا خيباتنا في المحبة، الأحاديث التي لم تطُل، النظرة التي حركت قلوبنا الخالية ثم هربت، الرسالة التي وصلتنا وانتظرنا تكرار بهائها ولم يحدث، الأغاني التي سمعناها وابتهجنا، ثم كررنا سماعها مع الأسف والأسى، الأحلام التي لبسناها على قلوبنا كتمائم وأحجبة، وسقطت في لحظة وتركتنا عُراة بلا حماية من شرور الرحيل.

 

بأريحية كاملة نُحملكِ هفوتنا وغفوتنا، وخيباتنا البسيطة والمركبة يا تجاربنا المخذولة. نرهق كتفكِ بقسوة الآخرين معنا، سوء فهمهم لمشاعرنا، وعدم إدراج لغتنا اليومية في قواميسهم، نحملكِ ندبًا عميقًا من حنين يأكل قلوبنا وسيل أمنياتنا التي اصفرَّت وشاخت قبل أن ترى النور، نحملكِ كل كبوة تبعتك.

 

ما سبق سرده هو صرخة تتبع كل خيبة أمل غمرتنا بتِيْهٍ وغربة، فتستوقفنا الصدمة، تشعرنا بعبء وجودنا المادي، تشعرنا بمدى قصور تفكيرنا فيما مررنا به، وقبل أن نجتاز هذا قد يمر سرب طويل من الأفكار السلبية الشبيهه فوق رؤوسنا.

 

لكني أُعامل تجاربي العاطفية كأصدقائي، أهدهدها لئلا تقيم على صباحاتي الكآبة، وأنصتُ لذكراها كما ينصت المريد لنصائح من درر لن يتلقاها من غير شيخه، وأنتظرُ بشغف ما تفوح به كغائب غريب يأتي كل عام أو لا يأتي، وأقصيهم جميعًا لو راودتني الوحدة عن نفسي.

 

كل تجربة دَخلتُ هي بستان نور، خلعت نعلي وطيني من التجربة التي سبقتها قبل أن أخطو إلى واديه البكر أو أغترف من نهره. كل تجربة هي خلية من عقلي، ملمح في وجهي، نبات أشرق في نافذتي الشخصية، وجزء من دم أوردتي استبدلته “بإنسانية” ما خضته أنا مقابل ما خاضه شريكي في التجربة، ومنحني رحيق ما اكتشفه.

 

أكتب هذا المقال لأقر بأني لا أتنصَّل من معلمي المحبة الذين جددوا الندى على دفاتر شعري، لامعي الأعين، أصحاب العطور السنية التي أصبحت آثار -فيما بعد- أقدام في طريقي، ولأقيم لهم بحفاوة صلاة امتنان.

 

نعم، روحي دائمًا تصلي لكل كبوة اتسعت لي كطفلة تكتشف العالم، جربتني/ جربتها، زرعت في روحي ريحانة ذكية من غفران، وأهَّلتني لما عليه قلبي من حساسية الآن.

 

يشيع في أصدقائي، ومعارفي أن كثرة التجارب، العاطفية تحديدًا، تميت القلب، وتستهلك الروح، وتوصم الفتاة الخارجة من التجربة بلا عقد زواج أو خاتم في يمينها.

 

وصدِّقني “كذب المنجمون ولو صدقوا” و”طوبى لمن جربتهم الحياة، وجربوها”. المجربون وحدهم يدركون أن الألم ولادة تُخرجهم من الظلمات إلى النور. يعرفون أن من غضَّ طرف قلبه عن الإخلاص، لم يجد الخلاص. يؤمنون بالمحبة، ويتلونها فرقانًا في وجه من أكلت الفجاجة والشرور أرواحهم، فيصبحون باسمها رُسلها.

 

تتيح لنا التجارب فيض إدراك، ومفاتيح أسرار، تسمح بأن نلتقي بآفاق براح، أن نغفرَ بغنى، وأن نتزن ونتسق مع ذواتنا، بإزاحة غمامات الكذب المخملي الذي نمارسه على أنفسنا، وتمد يدًا عطرة بالصدق والحقيقة، تمطرنا بأطياف موسيقى النضج، وتفتت منافي جهلنا بذواتنا، خالقةً وعينا الجديد.

 

الليل الذي أوجعنا بالرحيل، هو تمامًا ابتهالات وترانيم النهار الجديد الذي يقترب.

لذا أصلِّي دائمًا: “وأدخلنا في التجربة”*

المقالة السابقةالعيد عيد واللحمة أوروبي
المقالة القادمةآفة علاقاتنا الكتمان

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا