كيف غيرت الأمومة رؤيتي للأعمال الفنية

968

تجربة الأمومة واحدة من التجارب الملهمة، نبتة صغيرة تتكون بداخلك، من المحتمل أنك لم تعلمي بوجودها أثناء تكونها، ولكنها تبقى بداخلك تكبر فتدفعي أنت ثمن نضوجها تعبًا وإرهاقًا وغثيانًا وحبًا شديدًا وتعلقًا بمخلوق صغير حتى قبل أن ترينه وتضمينه إليك. تجربة الأمومة تؤثر على رؤيتك للحياة وتبدل في كثير من الأحيان أولوياتك وتعاملك مع الأمور التي كنت ترينها من المسلمات، مرونة جديدة يصنعها ذلك الكائن الصغير ليعيننا على تقبل الحياة. كانت أولى التغيرات التي أحدثتها في الأمومة -بجانب ثقل وزني وأنفاسي غير المنتظمة ونومي جالسة طوال أشهر حملي الأخيرة- كانت رؤيتي للأعمال الفنية، وتقبلي لها وما تطرحه من أسئلة واستفسارات داخل عقلي وروحي، وإلى الآن وبعد عامين من الأمومة ما زالت رؤيتي لكل الأعمال الدرامية تتأثر بكوني أمًا.

فيلم الحفيد – أواخر فبراير ٢٠١٩

بوزني الزائد قرابة عشرين كيلوجرامًا عن وزني الطبيعي، وبقدمي المتورمة داخل الحذاء، أذهب إلى بيت أبي في يوم الجمعة لقضاء بعض الوقت مع أسرتي. كل الطعام الذي أحبه موجود بكثرة ليكفي شهيتي غير المنضبطة في تلك الأيام من حياتي، أتفاجأ بإعلان فيلم الحفيد على إحدى القنوات الفضائية يتبعه كلمة “التالي”، أحدث نفسي بأنه سيكون يومًا لطيفًا. أجلس لأشاهد الفيلم وأضحك ملء فمي وأنا أسمع “حسين ما تطلق الست دي وتريحنا”، أسرح قليلاً في أن خفة الدم يجب ألا تنسيني دوري القادم كأم عليها توجيه الطفل في كل أفعاله وأقواله. أجلس وأنتظر مشهد السبوع، وأسرح بأنه باقي أيام قليلة وتحدث تلك الكلمات صوتًا ناعمًا في بيتي بينما أحمل صغيرتي، لكن المفاجأة كانت خوفي الشديد أثناء عرض المشهد السابق، مشهد الولادة.

أنظر إلى المشهد كأنني أراه للمرة الأولى، بالفعل كانت تلك المرة الأولى التي أشعر بقرب ما تمر به البطلة، فأنا سأجسد دورها بعد أيام ولكنني سأقوم به في مشهد حقيقي، ما كم الألم الذي شعرت به لكي تبقى متيقظة طوال الليل؟ كيف يمكنني دفع ذلك المخلوق إلى خارجي؟ ما كل هذا الوجع والصراخ؟ كان مشهد الولادة التمثيلي مشهدًا مزلزلاً لامرأة على وشك تجسيده الواقعي. أذهب إلى متصفحات الإنترنت لأكتب في صندوق البحث “ولادة طبيعية”، لتظهر الكثير من الفيديوهات، أشاهد منها الأول كاملاً، وفي أثناء الفيديو الثاني أبكي من الخوف. كانت تلك المرة الأولى التي شعرت فيها بتغيير رؤيتي للأعمال الفنية، فهي تجسد لي ما سأحياه بعد أيام أو ساعات.

اقرأ أيضًا: كيف تلتئم: محاولة إيمان مرسال لمواجهة أشباح الأمومة

مسلسل طريقي – في ٢٠٢٠

لم تكن تلك المرة الأولى التي شاهدت فيها ذلك المسلسل، فقد سبق أن شاهدته قبل معرفتي بزوجي، كنت حينها أحمل بعض البغض لـ”هدى”، التي قامت بدورها سوسن بدر، كنت أتعجب تدخلها في حياة ابنتها وإبعادها عن طريق الغناء عنوة، وعدم وضعها ميول ابنتها في الحسبان، كنت أتعجب عدم قدرتها على ملاحظة كراهية ابنتها لها وعنادها المفرط ويقينها الخاطئ بأنها الوحيدة التي تعرف.

شاهدت “طريقي” للمرة الثانية في ٢٠٢٠ بعد عام تقريبًا من وجود صغيرتي، ما زال عدم إعجابي بتصرفات الأم قائمًا، ولكن تقييمي للأسباب قد تغير بعض الشيء، وكذلك ألقيت بعض اللوم على الابنة “دليلة” التي قامت بدورها شيرين، والكثير من العتاب أيضًا على الأب الذي جسده الراحل محمود الجندي. رؤيتي تغيرت لأنني بعد بعض القراءة في مجال التربية والأطفال وإسقاطي لتلك المشاهد على حياتي الواقعية بين الأهل والأصدقاء، علمت أن ما رأيته على الشاشة لم يكن وليد اللحظة، ولكن كانت نتيجة سنين طويلة من التربية بطريقة خاطئة وعدم فهم ميول الطفلة وعدم التعامل معها بطريقة صحيحة.

تلك اللقطات كانت نتيجة لأم مكبوتة لا تجيد التعبير عن حبها سوى بالقرارات التي لا تقبل المناقشة والأوامر التي تصل لحد الفرمانات العثمانية التي لا يجب مجرد التفكير قبل تنفيذها، زوجة مكبوتة أيضًا لم تشعر بحب زوجها وتؤمن في قرارة نفسها أنه لا يحبها ويحب غيرها.
كانت تلك اللحظة التي أقف فيها أمام أهمية الصحة النفسية للمرأة، وكيف يؤثر على علاقتي بنفسي وأسرتي وطريقة تربيتي لأولادي. كانت تلك لحظة أجزم فيها أن لنفسي أولوية، وأنه لا تعارض بين الأمومة وحب الذات والاهتمام بالنفس.

اقرأ أيضًا: إزاي وليه لازم نقول لأ ؟

لعبة نيوتن – ٢٠٢١

كبرت صغيرتي بعض الشيء وبدأت ملامح شخصيتها تتضح أكثر فأكثر، وبدأت أقرأ لأتعرف على كيفية التعامل المناسب في هذه السن ومع تلك الطباع. “حازم” في لعبة نيوتن هو مثال للرجل الشرقي ذي التفكير الذكوري، لن أطيل الشرح فقد قتلت شخصيته بحثًا طوال شهر رمضان عبر العديد من المقالات الفنية، لكن هناك مشهدًا واحدًا استوقفني بصورة شخصية، مشهد بكائه في بيت أبيه بحضور الوالدين اللذين وجه لهما اللوم ربما للمرة الأولى في حياته، بأنهما كانا دائمي الانتقاد له ومقارنته بأخيه الناجح الذي سافر إلى أستراليا، بينما هو الفاشل الذي لا يعرف كيف يسير أموره بمفرده ولا يعرف للنجاح طريق.

تعتبر مقارنة الطفل بغيره هي المسمار الأول الذي يدقه الأبوان في حائط ثقة الطفل بنفسه كما يقول علماء التربية. هل من الممكن أن شخصية “حازم” وصوته العالي وغضبه المستمر ومحاولة فرض سيطرته على زوجته، كلها كانت محاولة منه لاستعادة ثقته بنفسه وقدراته بعد أن دمرها أبواه؟ سؤال ما كان ليطرق داخلي إلا بفعل الأمومة.

اقرأ أيضًا: لعبة نيوتن: “هنا” نتاج طبيعي من أم متسلطة

خلي بالك من زيزي – ٢٠٢١

في بيتنا القديم كان لنا جار مهذب متفوق مطيع لأمه، لكننا كنا جميعًا كأطفال نقاربه في السن لا نحبه، كان غريب الشخصية والأطوار، انفعالي لدرجة غير متوقعة، كلمة بسيطة تثير غيظه وحنقه، كانت أمه دائمًا ما تفخر بتربيتها لابنها، وأنه من قلائل لم يتلفظ بأي لفظ خارج ولا يأتي أبدًا بفعل لا تريده، معللة السبب بأنه منذ أن تم العامين كان إن أتى سلوكاً لا تحبه “ترميه في عشة الفراخ على السطح بمفرده”، على حد تعبيرها.

تذكرت ذلك الولد الذي ترك منزلنا منذ وقت بعيد، عندما عبرت “زيزي/ أمينة خليل” عن خوفها الشديد من أوضة الغسيل، لأنها كانت تترك بمفردها أيضًا بداخلها، أبكاني ذلك المشهد بكاء شديد. كيف لخطأ واحد يرتكب في الصغر وفي رحلة التربية الطويلة أن يؤثر على شخصية الطفل مدى الحياة؟ هل نحن بالفعل نتاج تربية الآباء؟ يا إلهي! لقد أصبحت أنا من الآباء!

تعد الأعمال الفنية واحدة من سبل ترفيه الإنسان عن نفسه وتخفيف الضغوط اليومية عليه، ولكنها تبقى أحد الأمور التي تتماس بصورة مباشرة مع حياة البشر وتعبر عنهم بشكل أو بآخر، لذا فإن الأعين الناقدة لكل مشهد يرتبط بالتربية أو تنشئة الأطفال هو أحد الأعباء التي تفرضها الأمومة.

اقرأ أيضًا: خلي بالك من زيزي: كيف يمكن للفن أن يغير العالم؟

المقالة السابقةالعالم يحتاج إلى أب
المقالة القادمةكيف تجعل حياتك أكثر بساطة وسعادة؟

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا