يتوق أغلبنا ويشتاق إلى الحصول على سلام داخلي، أن تكون نفسه هادئة وروحانياته مرتفعة، وتخرج نفسه من إطار الجمود والكآبة والصراعات التي يقابلها كل يوم، فيسعى كل منا جاهدًا لأن يفعل الكثير من أعمال الخير المتصلة بالطقوس والفرائض الدينية، لكي يشبع رغبته الداخلية، إنه على ما يرام وإنه ينال ويفوز برضا الله، أو بمعنى أدق أنه موصول بالله، وبالرغم من كل هذه الاجتهادات فإننا أحيانًا نجد أنفسنا ما زالت خاوية وروحانياتنا ضعيفة، بل ربما نشعر في قرارة أنفسنا أنها روحانيات سطحية غير أصيلة، تخضع لحسابات مواقع التواصل الاجتماعي، وفخ المادة لا الارتقاء بالروح، حتى نكتشف رغم ذلك أن تلك الروحانيات لا تكفي لتملأ أرواحنا بالامتنان الحقيقي، ويصبح التساؤل: ترى ما هي الروحانية الحقيقية في عالم مادي من الدرجة الأولى؟ وكيف أحصل عليها متجنبًا فخ الزيف؟
ما هي الروحانية؟
هناك تعريفات كثيرة للروحانية منها: أنها حالة من السلام الداخلي، من خلال الوعي بالذات وإدراك معنى الحياة، وتحقيق الانسجام بين القيم الشخصية وسيرة الحياة والقرارات الشخصية خلال المواقف اليومية. أي أن الروحانية لا تقتصر فقط على أداء الطقوس والفرائض (التدين)، ولكن هي معايشة يومية لتنفيذ كل القيم التي نؤمن بها في معتقداتنا، وتجسيدها في سلوكياتنا اليومية. هي القوة الداخلية التي تساعدني أن أعيش بقيمي ومبادئي في عالم مليء بالشر والصراعات.
كيف يمكن للإنسان أن تكون روحانيته حقيقية؟
في البدء يجب أن يتعرف الإنسان على شغفه: لماذا يعيش؟ ما هو هدفه الأسمى؟ ما هي غايته ورسالته في هذه الحياة؟ ما هي أحلامه ورسالته التي يسعى لتحقيقها؟ هل سألت نفسك يومًا هذه الأسئلة؟ هل تعرف ما هي أهدافك التي تحيا من أجل تحقيقها؟ إن وجود الإنسان بلا أهداف يجعل حاله تظل كما هي عليه بدون معنى ولا قيمة ولا روح.
علامات الروحانية الحقيقية
الروحانية الحقيقية تكون:
– عندما يدرك الإنسان أن لحياته معنى وهدف ورسالة، وأن الله يعرف قلبه ويرى دوافعه في كل عمل، فكل مظاهر الروحانية التي تصدر منه ليست مزيفة، لكنها تصدر من قلب يحب الله، وليس من شخص يسعى لينال رضا الآخرين أو مدحهم. فهو يطعم الفقير حبًا فيه ورغبة في إسعاده، لأنه يعلم أنه أخ في الإنسانية، ويعلم أن هذا الفعل يرضي عنه الله، وليس رغبة في أن ينال كلمات الاستحسان من الناس.
– عندما يصبح الإنسان منسجمًا مع قيمة، مثل: الصدق والوفاء والإخلاص والشجاعة الكرم والمثابرة الدقة… ويقدرها. يدرك قيمة مبادئه، فيصعب استفزازه، لأنه يملك القدرة على الصبر والمسامحة والتماس الأعذار.
– تكون روحانيات الإنسان حقيقية عندما يأخذ قراراته بناء عن قيمة وليس رد فعل لغضب أو خوف أو مشاعر مختلفة، وليس رغبة في المجاملة أو التقليد أو مجاراة الثقافة التي يحيا وسطها، يستطيع التخلي عن مكاسب وإنجازات إذا تعارضت مع ما يؤمن به، مهما كانت الإغراءات.
– الروحانية الحقيقية تعني الوضوح والاستقامة في الخفاء كما في العلن.
– الروحانية الحقيقية تكون عندما يعرف الإنسان أن يشكر الله ويقدر نعمه، ولديه قدرة كبيرة على الامتنان والعطاء في نفس الوقت. يعرف كيف يحب الآخرين وحريص على الارتقاء بهم ودعمهم ومساعدتهم على النجاح. يعرف كيف يعيش اللحظة كما يقولون، “لا يلعن العاصفة لكن تدرب كيف يستمتع بالرقص تحت المطر”، يعرف أن يعبر بصدق عن مشاعره عند الفرح والحزن والخوف ولا يخجل من ذلك، يعرف ضعفه ومحدوديته، ويعرف نقاط قوته ويسعى لتطوير نفسه. يغضب ويحزن لكن لا يستسلم للحزن. ويخرج من كل تجربة بدرس وعبرة، ويسعى للتغيير دائمًا للأفضل، يعترف بأخطائه ولا يخجل من ذلك.
اقرأ أيضًا: 8 طقوس من الروحانيات تشحن روحك فيما تبقى من رمضان
كيف أحتفظ بروحانياتي وأنميها يوميًا؟
نحتاج في هذه الحياة أن نتدرب يوميًا لنحافظ على روحانيتنا، وتواصل أرواحنا مع الله، لكي نستطيع أن نعيش بسلام نفسي وسط كل الاضطرابات والأخبار المزعجة التي تلاحقنا. الأمر يحتاج إلى تدريبات يومية وحقيقية بلقاء يومي لنفسي مع خالقها وبارئها، في جو من الهدوء والحب. من هذه التدريبات اليومية:
1. أوقات للتأمل والاختلاء مع النفس ومع الله، وهي أوقات يومية يستطيع الإنسان بها أن يصفي ذهنه ويسترخي. يمكن أن تكون في الصباح مثلاً وقبل الذهاب للعمل. أو الخروج في مكان خلوي مثل حديقة أو شاطئ أو حتى في البلكونة. تأمل واسترخاء بلا أي مقاطعات بعيدًا عن الكمبيوتر والموبايل أو أي تشتيت، ذهن صافٍ ونفس عميق يجري حديثنا السري مع الله.
2. الصمت والحديث الداخلي.. أكلم نفسي وأكلم الله، و أعبر عن مشاعري ومخاوفي بكل شفافية ووضوح.
3. الامتنان .. أكتب وأعدد عطايا الله حولي وأشكره عليها. أغمض عيني وأتذكر كل الأشياء التي أمتن لها في الماضي والحاضر.
هذه التدريبات البسيطة ستجعل روحانياتنا حقيقية ومرتفعة، يمكنني أن أعبر عن مشاعري فأشعر بحب الله، وخوفي فأشعر بسلام داخلي لوجودي في حضرة الله، أشكوا ظلمي وغضبي فأستطيع أن أسامح وأصفح، تبرد في هذه الأثناء ثورات الغيظ والغضب. إن لقاء الروح بخالقها يوميًا يجددها وينعشها ويرد فيها الحياة ويكسبها قوة في أوقات الضعف.
وما أكثر احتياجنا في هذه الأيام إلى روحانية حقيقية تعبر بنا فوق كل زيف نراه حولنا، الروحانية الحقيقية نتيجة للقاءات يومية وتواصل نفوسنا مع خالقها.
اقرأ أيضًا: كيف أنقذني الامتنان؟