“شد حيلك، اصبر، لازم الحياة تستمر…” كلها عبارات قد نسمعها من الآخرين عند مواجهة مشاعر الحزن والأسى الناتجة عن الفقد. وهو ما يُشعِرنا بالوحدة، وبأن أحدًا لا يفهم ما نعانيه، تبدو مجرد عبارات خاوية، خصوصًا حين يقرر أحدهم أن “كفاية حزن كده” وكأن نصيبنا من الحزن قد تم استيفاؤه.
لا يوجد “كاتالوج” للحزن، ولا طريقة صحيحة وأخرى خاطئة للتعبير عن مشاعرنا، لكن فهم مشاعر الحزن يساعدنا على التأقلم مع الألم بطريقة صحية والاستمرار في الحياة.
الحزن Grief ردة فعل طبيعية للخسارة، سواء خسارة أحد الأحباء عن طريق الموت أو الانفصال، أو فقدان الجنين في حالة الإجهاض، أو انتهاء صداقة ﻷي سبب، أو خسارة الوظيفة التي ترتبط بها نتيجة التقاعد أو التسريح أو الإصابة، أو الخسارة الصحية سواء بتعرض الشخص نفسه أو أحد أحبائه لمرض خطير. كما قد تشعر بالحزن لتعرضك لتغيير كبير، كالاضطرار لترك منزل الطفولة، أو الاضطرار للهجرة.
تختلف طبيعة مشاعر الحزن من شخص لآخر بحسب العديد من العوامل الشخصية والنفسية، كطبيعة شخصيته، وثقافته ومعتقداته الدينية، وكذلك تفاصيل تجربة الفقد نفسها. ويستغرق الحزن وقتًا لتخف حِدَّته بشكل تدريجي.
اقرئي أيضًا: بعد رحيل الأحباب: كيف شكَّلتني تجارب الفقد
من المهم فهم مراحل الحزن المختلفة، مع الوضع في الاعتبار أن المرور بهذه المراحل يختلف من شخص لآخر، فليس من الضروري أن يمر بها جميعًا، أو بنفس الترتيب، فقد تتشابك وتتداخل بحيث يصعب تمييزها. فالأمر يشبه قطار الملاهي الذي يصعد ويهبط دون أي تحكم منك، ودون أن تستطيع التنبؤ بحركته التالية، لكنك تدرك أنه سينتهي بعد أن يتم دورته.
في كتابها الصادر عام 1969 عرضت طبيبة النفس السويدية إليزابيث كيوبلر روس ما أطلقت عليه “مراحل الحزن الخمسة”، وهو ما عرف فيما بعد بنموذج كيوبلر روس:
1- الإنكار: عادة ما يكون ردة الفعل الأولى عند مواجهة فقد عنيف هو إنكار ما حدث كميكانيزم دفاعي للتخفيف من حدة الصدمة. “أنا بخير، هذا لم يحدث لي، كل شيء كما يرام”.
2- الغضب: عندما يتلاشى الإنكار ويجد المرء نفسه في مواجهة الألم الذي لا يحتمله، يشعر بالغضب والظلم، وتنتابه التساؤلات حول ما حدث “لماذا يحدث هذا لي أنا؟ هذا ليس عدلاً! لماذا أُحرم ممن أحب”. قد يوجه غضبه تجاه الأطباء أو الله أو الشخص الذي رحل.
3- المساومة: كردة فعل للشعور بالعجز والهشاشة أمام الفقد تأتي مرحلة المساومة، كمحاولة للشعور ببعض التحكم (سأفعل أي شيء لكي أراهم مرة أخرى، لو تغير ما حدث سوف أتغير، لو كنا لجأنا لطبيب آخر…”.
4- الاكتئاب: الشعور بعدم جدوى الحياة بعد وداع أقرب الناس لقلوبنا “لماذا أعيش من بعده؟ لا فائدة من استمرار حياتي”.
5- التقبل: أن يشعر الشخص بالسلام والاستعداد لمتابعة حياته أخيرًا وتقبل ما حدث.
بعض الأعراض الشائعة في حالة الحزن:
الصدمة وعدم التصديق: قد تجد صعوبة في التصديق عند معرفتك بخسارة أحد أحبائك. قد تقضي الشهور في انتظار صوت دوران مفاتيحه في باب الشقة، أو تقضي الوقت في انتظار الرنين المصحوب باسمه على شاشة الهاتف رغم علمك أنه لم يعد هنا.
الحزن: الحزن الثقيل الذي لا تطفئه الدموع، الحزن الذي يتركك خاويًا ووحيدًا ومُنهكًا.
الندم: قد تشعر بالندم على أشياء فعلتها أو تأخرت في فعلها مع الشخص الراحل. قد تشعر بالندم متوهمًا أن هناك أشياء كان بإمكانك فعلها كي لا تفقد. وقد تشعر بالندم إذا شعرت بالراحة بعد موته (خصوصًا في حالات المرض الطويل).
الغضب: قد تشعر بالغضب والظلم، بالغضب من نفسك، أو من الأطباء أو من الله. أو حتى ممن رحل وتركك لمواجهة قسوة الدنيا وحيدًا.
الخوف: الخوف من الوحدة في مواجهة العالم دون من رحلوا، الخوف من المسؤوليات التي تركوها. الخوف من موتك أنت شخصيًا.
الأعراض الجسدية: قد يأتي الحزن مصحوبًا ببعض الأعراض الجسدية، مثل الصداع والغثيان وآلام المعدة، وفقدان أو زيادة الوزن، وضعف المناعة.
نصائح للتعافي:
من أهم عناصر التعافي من آلام الفقد أن تجد دعمًا من الآخرين، ربما لا تجد القدرة على احتمال مجرد الحديث أو الاستماع للآخرين في البداية، لكن بعد فترة حين تشعر بقدرتك على استعادة التواصل معهم لا تخجل من طلب الدعم. قد يحاول البعض تقديم المساعدة لكنهم لا يعرفون ما الذي تحتاجه تحديدًا، مما قد يجعلهم مصدرًا للإزعاج. اشرح للمقربين ما تحتاجه بالضبط، سواء كتفًا للبكاء عليه، أو مساعدة في إجراءات الجنازة.
– اللجوء لله قد يساعدك في التصالح مع الأمر، الذهاب للمسجد أو الكنيسة. الدعاء والصلوات، والتمسك برحمة الله.
– تواصل مع أشخاص مروا بنفس تجربتك، فقد تفيدك مشاركة مشاعرك مع آخرين اختبروا تجربة الفقد نفسها.
– واجه مشاعرك، قد ينصحك البعض بتجاهل مشاعر الحزن كي تستمر الحياة، لكن هذا يطيل الأمر ويصعبه أكثر. واجه مشاعرك وامنح الحزن وقته حتى تصل للتصالح مع الفقد بصورة طبيعية.
– بإمكانك التعبير عن حزنك بالكتابة، اكتب الخطابات للشخص الراحل تشرح فيها مشاعرك وتحكي له كل ما لم تستطع إخباره به في حياته.
– تطوع في عمل خيري اعتاد الراحل أن يهتم به.
– امنح وقتًا وجهدًا للاهتمام بالأشخاص الذين اعتاد الراحل الاهتمام بهم.
– اهتم بصحتك: تناول طعامًا صحيًا وخذ قسطًا كافيًا من النوم.
– ليس لأحد الحق في أن يخبرك كيف تحزن، ليس من حق أحد أن يقرر لون الملابس الذي ترتديه أو طريقة حزنك.
– كذلك اترك لمشاعرك العنان ولا تجبر نفسك على الشعور بطريقة معينة، لا تشعر بالخجل من مشاعرك، من الطبيعي أن تواجه شعورًا بالغضب، وقد تواجه اهتزازًا في ثوابتك الدينية. من الطبيعي أن تمر بك لحظات من السعادة أو الضحك. لا تلم نفسك إذا شعرت بالسعادة.
– خطط للمواقف التي تؤجج الحزن: أعياد الميلاد أو ذكرى زواج أو ذكرى أول لقاء، أو المرور بالمطعم المفضل. كلها أشياء قد تؤجج الحزن مرة أخرى وتعيد إحياءه فكن مستعدًا لمواجهتها.
متى تحتاج للمشورة الطبية؟
– من الطبيعي ألا ينتهي الحزن على الراحل تمامًا، لكن بعد مرور فترة من الوقت يتقلص الحزن تدريجيًا، ويتراجع بحيث لا يصبح في بؤرة التركيز، وتخف حدته بمرور الوقت، لكن إذا استمر بنفس الحدة لفترة طويلة فقد يعني هذا أنه يتحول إلى مشكلة أعقد، وهو ما اصطلح عليه بالحزن المعقد (complicated grief) وهو يشبه حالة حداد طويلة، كما قد يتطور الحزن إلى الإصابة بالاكتئاب، أحيانًا يصعب التفرقة بين الحزن والاكتئاب لتشابه أعراضهما، لكن يتميز الاكتئاب بالأعراض التالية:
– إحساس قوي ومستمر بالذنب.
– بطء الكلام والحركة.
– التفكير في الموت والانتحار.
– الهلاوس السمعية والبصرية.
– عدم القدرة على العمل أو الدراسة.
في هذه الحالات لا تتأخر عن استشارة متخصص فقد يتطور الأمر ليشكل تهديدًا جسيمًا لك ولمن حولك.