متوهجة.. ذلك أفضل كثيرًا

399

لم يخطئ قاسم أمين حينما دعا لتعليم المرأة، فقد لازَم بين تعليمها واهتمامها بنفسها وأطفالها، حيث قال إن النساء المصريات على عهده كنّ يجلسن في منازلهنّ منكوشات الشعر، بملابس ملوثة ببقع من طبخ وتنظيف ومتابعة الأطفال. حسنًا، بعد نحو مائة عام تعلّمت الفتيات، وما يزال قطاع كبير منهنّ يجلسن في بيوتهنّ بشعور مهوّشة وملابس تحتاج للنقيع في الديتول وكعوب مشققة.

 

أنا لا ألومهنّ. فقد نشأت الفتاة في مصر على “الإخفاء”: لا بنطلونات ضيقة، وفي بعض الأحيان لا بنطلونات أصلاً، بل جلابيب ساترة، طويلة الكمّين حتى في ظروف الاحتباس الحراري المتزايد عامًا بعد آخر، في الريف لا يكشفن شعورهن إلا عند النوم، الأمر الذي ينفي الحاجة لتسريحها، إذ ما الفائدة؟! فهي مغطّاة على كل حال!

 

في الريف أصلاً الحياة مأساوية. أذكر قول توفيق الحكيم عن الفرق بين الريف المصري والأوروبي، أن نساء الطبقة الثرية في أوروبا كنّ ينزلن للريف، ويعلمن نساءه ويهتممن بهنّ، بينما في مصر انغلقت الطبقة فوق المتوسطة والعليا على نفسها، إلا قلة قليلة، وهذه لم تفلح في تعليم نسوة الريف أن يضعن القطرة في أعين أطفالهن المصابة بالرمد كيلا يفقدوها، وأن يذببن الحشرات الطائرة عن طعامهن، وأن يضعن الدهانات المرطبة على كعوبهن ومرافقهن.

 

 

أقول نشأت الفتاة المصرية على المحاذير: جسمك عورة، جسمك عار لا بد من إخفائه، إخوتك الرجال وأبيكِ وعمكِ مصادر خطر محتمل، لن تسلمي من أعينهم، وأعينهم تحرّك شهواتهم. أليس من الأوفق بدلاً من تغطية الجسد وزرع الرعب في نفوس البنات الصغيرات، تربية الذكور على الحشمة ومراعاة الأخوات، بدلاً من منهج “الرجال على حق دائمًا”، الذي يجعلهم أصحاب الحق الأبدي في فعل ما يريدون؟

 

تعرّضت أوبرا وينفري، المذيعة الأشهر في تاريخ التليفزيون الأمريكي، للتحرش في مراهقتها من عمها وابن عمها. هذا مكئب جدًا، إذ أن لا أحد سالم، لا فتاة آمنة. لكن هذا لم يقعدها عن مواصلة تحقيق أحلامها: فقد ناضلت وجادلت لتتعرّش البرامج الأمريكية، ومن ثمّ العالمية. اتفق مع محتوى ما تقدمه أو اختلف، لكنها ظلّت مناصرة للمرأة ومدافعة عن الظلم الواقع عليها، إلى أن تقاعدت مؤخرًا.

 

في فيلم “الباب المفتوح” المأخوذ عن رواية لطيفة الزيات الحاملة نفس الاسم، تقول والدة ليلى لها في حفل خطوبة بنت خالتها: “حدّ يلبس الفستان الحلو ده ويقعد في مكانه؟ قومي ورّيه للضيوف”. قد تبدو الجملة عادية، لكني أراها تستبطن جلّ ما تربّت عليه الفتيات المصريات، خاصة بعد هوجة الحجاب في التسعينيات ومطلع الألفية والدُعاة الجدد: الجمال للخارج، لأعين الناس لكي يمتدحوه. توضع كامل الزينة عند الخروج، الاهتمام بربطات الحجاب المتعددة، والوردة على جانب الوجه أو أسفل الكتف. كل هذا رائع ولا عيب فيه، لكنّه يبقى “للخارج”، ونعود للمنزل لننكش شعرنا ولا نمشطه، ونرتدي جلبابًا يحتاج للغسل، وننام دون دعك أقدامنا أو فرك أسناننا.

 

الفقرتان السابقتان حقيقيتان، مما يجعل تلازمهما مربكًا: إذا كانت الفتيات، كل الفتيات، معرّضات للتحرّش، خاصة مع اهتمامهن بجمال وجوههن وملبسهن، وإذا كنّ لا يضعن زينة أو كحلاً إلا وهنّ متجهات للخارج، فما المفرّ؟

 

تلازُم كهذا جعل الفتاة تفقد إيمانها بجمالها الخاص، أنا لست جميلة لأني لا أضع المكياج، ولو وضعته سأسبب المتاعب لنفسي، وسيلومني المجتمع وليس الجاني الأصلي. لا مهرب لي، والأفضل لو تبخّرت من الوجود أصلاً، أو مكثت في المنزل لا أخرج، ولا أمشط شعري، ومحتشمة جدًا حتى مع الحرّ، لأن حتى إخوتي لا يؤمن جانبهم. ما العمل؟

 

أنا لا ألوم على البنات. فالحياة في مصر جحيمية، بدءًا من عدم وجود رصيف نمشي عليه عند النزول للشارع، مرورًا بمواصلات عفنة أصبحت الموطن الرئيسي للكائنات المتحرّشة، انتهاءً بعمل يطحنها بمطالبه ولا يعطيها سوى الفتات. فعندما تعود للمنزل تكون “طهقانة” وتودّ التخلص من كل ذلك: العمل وتراب الشارع والمعاكسات السمجة والتلزيق في الميني باص وثِقل الحقائب التي عليها حملها من تلك السوق البعيدة لأنها أرخص بجنيهين من الخضري أسفل بيتها، والذي يمارس البصبصة على نطاق واسع. تعود فتلقي حذاءها في أي مكان وتخلع ملابسها كيفما اتفق ثم تأخذ حمامًا ساخنًا، وتأمل ألا يحادثها أحد للعشرين سنة القادمة.

 

فقط كل ما أرجوه، أن تضعي بعض الكريم بعد الحمّام، الكفان رفيقا كفاح يستحقان بعض الاهتمام. مشّطي شعرك واتركيه دون ربط، سيُنتثر حول وجهك في نظام عابث لكن مبهج. ادعكي كعبيك يوم الجمعة، واغسلي كل ملابسك وملاءات السرير بحيث تغيرينها كل يومين مرة، واستمتعي برائحة الشمس في الملاءات الجديدة، صدقيني ستطرد الأحلام السيئة وأرق الليلة الماضية وترحّب ببداية جديدة وتصالح مع النوم وأحلامه. ابتسمي لنفسك في المرآة، واغسلي أسنانك كثيرًا، ستلاحظي تغيّر لونها للأفتح يومًا بعد آخر. أحبّي نفسك.

 

كلمة السرّ: أنتِ أجمل منهنّ جميعًا، فقط آمني بذلك.

 

* العنوان عمل مشترك بين رزان وصديقتها ريم وجيه

المقالة السابقةأول يوم مدرسة
المقالة القادمةمشاعر وكلمات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا