غزة – القاهرة 5: لسه جوة العتمة ضي

1480

لقاء

تم نشرة في 02/08/2016

وقت القراءة : 5 دقيقة

 

غاليتي دينا..

 

مساؤك سكر أيتها الجميلة، مساؤك ممتلئ بالبهجة يا سيدة البهجة. كل عام وأنتِ بخير، وكل عام وأنا محظوظة بكِ، أسأل الله أن يأتي عيدكِ القادم وقد ذابت المسافات ما بيننا، لأحتفل بكِ احتفالاً يليق بحجم الحب الذي أحمله لكِ في قلبي. لا أهنئكِ بيوم ميلادك بقدر ما أهنئ نفسي بوجودكِ في حياتي، هذا الوجود الذي كان منحة إلهية أحمد الله عليها كلما مررتِ بخاطري، وما أكثر ما تفعلين! تسع وعشرون سنة، لا أستطيع أمامها إلا استعارة صوت القيصر لأغني لكِ “كل ما تكبر تحلى، وتصير أحلى وأحلى، بين الخد والحاجب سحر العالم كله”، أما روحكِ غاليتي ففيها جمال العالم كله، روحكِ التي كلما تقدم بكِ العمر ستظل طفلة صغيرة لا تكبر أبدًا.

 

أجد نفسي أمام رسالتك الخامسة عاجزة، لا أدري ماذا أكتب، أو عن ماذا أكتب. فقد مر الأسبوع دون أحداثٍ تذكر، الحدث الوحيد الذي يستحق الذكر هو عودة “سلوان” للكتابة مجددًا على حسابها الشخصي على موقع الفيسبوك، تلك الكتابات التي أجد نفسي أمامها عاجزة عن الرد فأكتفي بوضع شارة الإعجاب، والتي لا تعني إعجابًا بالطبع قدر ما هي رسالة صغيرة بأني موجودة لأجلها، رسالة أدرك تمامًا أن “سلوان” تُحسن استقبالها جيدًا. لا أعتقد أني بحاجة لأن أحدثكِ عن حالة “سلوان” أكثر فأنتِ وصفتِ ما بها تمامًا.

 

قلت لكِ إن الأسبوع مر دون أحداثٍ تذكر، لكنه امتلأ بالكثير والكثير من التفكير حتى كدت من فرط التفكير أموت، لولا الهروب إلى النوم. أفكر في الماضي كثيرًا، في سنواتٍ أربع ضاعت مني وكانت هباءً منثورًا، أفكر وأجد بداخلي غصة لا تريد أن تذهب لحالها، ولا أملك أمامها إلا قول يا الله، ودعاء من قلبي الكسير على من تسبب في ضياعها. لا أستطيع نسيان الأذى يا دينا، لا أستطيع نسيان الظلم، ولا أستطيع نسيان أحلامي التي قتلت غدرًا رغم كوني ممتنة لأنها لم تتحقق مع من لا يستحقها ولا يستحقني.

 

الفكرة الأخيرة تدفعني دفعًا للتفكير في المستقبل، وأجد نفسي أتساءل.. أتراه هناك من يستحق؟! أحلامي بسيطة وجميلة ولا أريدها أن تتحول لكوابيس مرة أخرى، حتى أني أفكر أن أودعها بنفسي قبرًا مظلمًا بداخلي حتى لا يحدث ذلك، فموتها بيديّ أهون عليّ ألف مرة. أجد الآن أن الوحدة ليست سيئة إطلاقًا، صادقت وحدتي يا دينا منذ زمن ولم أعد أهابها كما كنت سابقًا، لأنه كما قالت الصديقة “هديل عبد السلام” “الوحدة أهون من ونس أجوف”. هكذا نشب صراعٌ مرير ما بين عقلي وقلبي أجد روحي خلاله وكأنها حُشرت ما بين مطرقةٍ وسندان لا يكفان عن التصادم، فعقلي مؤمن أن الوحدة هي الخيار الأمثل لي، بينما القلب ممتلئ بأحلامٍ وردية لا يرضى عنها بديلاً.

 

أهرب من كل هذا إلى موقع الفيسبوك نافذتي الوحيدة على العالم. أهرب إلى حضن الأصدقاء الافتراضي الذي يهون على روحي الكثير. الأصدقاء مشغولون بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، صور الكتب الجميلة منتشرة في كل مكان، وهو أمرٌ عظيم ومبهج لولا تلك الغصة في قلبي لأني لم أستطع حضور فاعليات المعرض، فحُرمت رؤية أصدقائي وتحول الحضن الافتراضي لأحضان حقيقية من ناحية، وحُرمت متعة اقتناء الكتب من ناحية أخرى. لا أدري ماذا أقول، لعنة الله على المسافات والحدود والمعابر. ولعنة أكبر على احتلالٍ تسبب في تحول قطاع غزة لسجنٍ كبير، يخنق الأرواح قبل الأجساد.

 

الكتب يا دينا.. الكتب.. لا أعتقد أني بحاجة لأن أحكي لكِ عن شغفي بها، فأنتِ تمتلكين الشغف ذاته. لكنها فرصة لأخبركِ عن عظيم امتناني لها، فدون أي مبالغة أن مدينة للكتب بحياتي، وتحديدًا للكتب الإلكترونية التي تحول عتمة غزة إلى نورٍ، وتهرب بي من سجني هنا. أعتقد أنكِ لست من محبي القراءة الإلكترونية كحالِ الكثيرين، فلن يقدر عظمة الكتب الإلكترونية إلا شخصين، من حُرم المال ولا يستطيع شراء الكتب، ومن حرم الكهرباء -مثلي- فباتت الأجهزة الإلكترونية بما تحويه من كتب ملاذه الوحيد لقضاء ساعات انقطاع التيار الكهربائي الكثيرة.

 

الحديث عن امتناني للكتب يدفعني لذكر امتناني لأصدقائي الذين حولوا موقع الفيسبوك لمعرض كتبٍ صغير بكل الصور التي التقطوها لأنفسهم في المعرض، أو لغنائمهم من الكتب، فهذه الصور تفرحني للغاية وتضعني في قلب الحدث، فتهون عليّ عدم حضوره. أيضًا ممتنة جدًا لصديقتيّ “إسراء” و”يمنى”، فإسراء اشترت لي روايتين للعظيم “نجيب محفوظ” هما “السراب” و”الحب فوق هضبة الهرم”، أما يمنى التي اعتادت أن تشتري لي كتابًا في كل دورة لمعرض الكتاب. أذكر أنه في دورة عام 2014 اشترت لي كتاب “طريق التوابل” للكاتب الذي أحبه بشدة “عمر طاهر”، وفي دورة عام 2015 اشترت لي رواية “مثل إيكاروس” للكاتب الذي تربيت على أدبه “د. أحمد خالد توفيق” والمفاجأة الأكبر وقتها لم تكن الهدية ولا الرواية، إنما توقيع د. أحمد عليها. أما هذه الدورة فأنا على موعد مع كتاب آخر من “يمنى” هو “محظورات على الشاشة – التابو في سينما جيل الثمانينيات” للكاتب الشاب “أحمد شوقي”، وكون الكتاب عن السينما فهذه فرحة أخرى غير فرحتي بكونه هدية من صديقتي. الجدير بالذكر يا دينا أن هذه الكتب تقطع رحلة لا يُستهان بها حتى تصل إليّ في غزة. حيث تُرسل الكتب عبر البريد إلى عنوان عائلتي في مصر ثم يحملها أحد القادمين من مصر إلى غزة، رحلة طويلة تجعلني أستقبل الكتب عندما تصلني استقبال الفاتحين.

 

هكذا ترين غاليتي دينا كيف انقضى الأسبوع ما بين التفكير المستمر ونفحات معرض الكتاب، لكن نهاية الأسبوع حملت لي حدثًا بسيطًا للغاية، لا أريد أن أتجاهله، لذلك سأكتب لكِ عنه. أثناء تصفحي لموقع فيسبوك وجدت مقطع فيديو كُتب في وصفه التالي: “هل تذكرون الطفل الذي تمنى الموت في العام الجديد؟ شاهد حاله قبل وبعد، وتعرف على أمنيته الجديدة التي تغيرت بسبب أهل الخير”. وجدت نفسي أردد بالطبع أذكر، بالطبع أذكر، وكيف أنسى يا دينا ذلك الصغير بائع الصُحف الذي سُئل في رأس السنة الميلادية عن أمنيته للعام الجديد، فكانت إجابته “مثلاً يعني أموت”، الإجابة وقعت كالصاعقة لا على رأس المُراسلة السائلة فحسب، بل على كل من شاهد الفيديو. أنا واحدة من المشاهدين بكيت يومها بكاءً مريرًا وكرهت الحياة التي تقسو على هذا الصغير حد تمنى الموت. الآن، هذا الصغير الجميل لم يعد يتمنى الموت يا دينا بفضل أيادي الخير التي امتدت لتساعده وعائلته لترسم ابتسامة على وجهه لم أرَ أجمل منها على الإطلاق، وحولت أمنية الموت إلى أمنية التفوق الدراسي. عندما شاهدت الفيديو الجديد بكيت أيضًا، لكنها دموع الفرح، دموع الامتنان لله الذي لا ينسى عباده أولاً، وللخير الذي مهما كفرنا به يثبت لنا أنه موجود ثانيًا. 

 

أتعلمين ما هو الغريب في هذا الحدث يا دينا؟ أني لم أكن أحد أعضاء الصفحة التي نشرت مقطع الفيديو الذي ستجدينه مع الرسالة، إنما ظهر لي على شكل إعلان ممول من إعلانات الفيسبوك التي عادةً لا تحمل لي إلا كل ما هو تافه ولا قيمة له، لذلك أجد أن الأمر أشبه برسالةٍ إلهيةٍ تريد أن تخبرني: “اطمئني؛ أيادي الله تعمل في الخفاء”. أعتقد أن عليّ أن أطمئن فعلاً يا دينا وأكف عن التفكير، ولأترك أموري لله الكريم العظيم الأقرب إليّ من حبل الوريد.

 

بوحي ينتهي إلى هنا، ولتكن آخر كلماتي أغنيةً لفيروز كما اقتضت عادتنا الجميلة.

أُوْ مِنْ أنْ خَلْفَ الحبّاتِ الوادعاتْ.. تزهو جنات

أُوْ مِنْ أنْ خَلْفَ الليل العاتي الأمواجْ.. يعلو سراج

أُوْ مِنْ أنّ القلب المُلقى في الأحزانْ.. يلقى الحنانْ

كُلّي إيمان

 

تصبحين على إيمان ويقين بكل الخير والسلام في هذا العالم.

دمتِ بخير غاليتي.

 

الفيديو : اضغط هنا

 

غزة – القاهرة 1: راجعين يا هوى راجعين.. راجعين للبهجة راجعين

 

القاهرة – غزة 1: وليكن لنا من اسمك نصيب  

 

غزة – القاهرة 2: أنا بطلة   

 

القاهرة – غزة 2: لجميلتي سلام  

 

غزة – القاهرة 3: ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلاً    

 

القاهرة – غزة 3: بعدك على بالي

 

القاهرة – غزة 4: تلات حاجات حلوة

 

غزة-القاهرة 4: سنرجع يومًا إلى كلِ جميلٍ

 

القاهرة – غزة 5: أنا تميت 29 سنة

المقالة السابقةعِش قبل أن تَموت
المقالة القادمةيوم من عمرى.. في معرض الكتاب

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا