دينا
21/1/2019
“بعدك على بالي.. يا قمر الحلوين
يا زهر التشرين، يا دهبي الغالي“.
إنه الصباح..
صباح الخير عزيزتي لقاء..
أتمنى أن تكوني صحوة النفس كذلك الصباح الصحو المنعش، الشمس هينة لطيفة.. والأنفاس باردة و” فيروز” تخبر ذلك الحلو المغرور أنه ما زال على بالها.
تأخرت في الكتابة لكِ في هذا الأسبوع الذي يمضي أخيرًا، يمضي بعد الكثير من الأحداث المملة والمفاجئة الممزوجة بإصبع متورم أفقدني القدرة على الكتابة وأدوار برد قصيرة متكررة مُنهكة.. يملؤني البؤس والتعب حتى الآن، يمتلكان قلبي وأفكار والساعات الماضية ببطء من عمري.
ولكن صباحًا مثل هذا له قدرات عجيبة على نفض كل شيء بداخلي ثم إعادة ترتيبه من جديد، صباحًا مثل هذا يضعف قدرة الدمع على الجريان السريع على وجنتيّ، ويجعلني أفكر بإيجابية أن كل شيء سيكون على ما يرام.
الصباح في “الشيخ زايد” مختلف كثيرًا عن صباحات “القاهرة” المضوية بألف صوت وصوت، أقطن في مدينة هادئة للغاية تقع على أطراف “السادس من أكتوبر” وهي لو تعرفين كبلد أخرى خُلقت وسط الصحراء بضربة عصا ونزح لها العمار هروبًا من جحيم وسط المدينة وقيظها وضوضائها وزحامها المعقود بدون فك.
هنا نظافة الهواء والهدوء ميزة والعين لا ترى إلا قليلاً من القبح والكثير من البراح.
هنا لا أبالغ إن أخبرتك أننى أستطيع الاستيقاظ على زقزقات العصافير التي تحتل الصفصافة الكبيرة النائمة أمام المنزل كبيت لها، فالأصوات هنا من شدة الهدوء واضحة جدًا.. حتى أن نباح الكلاب ومواء القطط الوليدة يوقظني من غفواتي وأحيانًا يهيأ لي أنني سأجدهم في المنزل في أي لحظة يخرجون من وراء الأريكة ومن أسفل الأسرّة.
الغريب في الأمر أنني لم أطلب أن أعيش في مدينة هادئة معزولة كتلك، ولم أحلم بالخروج من صخب العاصمة، ولم يخطر ببالي أنني سأبتعد عن أمي وستفصلنا مسافة كبيرة جعلتني لا أراها كثيرًا ونكتفي بالمكالمات اليومية التي تمحو ألم فراقها وتهوّنه عليّ.
تأقلمت وأقمت حياة وبنيت من الجدران ما ظلل علينا أنا وزوجي وابنتي بالمحبة، وألقت المدينة بهدوئها السحري علينا، فباتت حياتنا هادئة تمر كما السُحب السارحة في السماء.. حتى أنه يبدو للبعض من الأقارب والأصدقاء وكأنني أحيا في دائرة من الملل من فرط الهدوء، ولكن ما لا يعرفونه هو أنني مستقرة بسلام، لا يمزقني صخب ولا يأكلني الانفعال..
أمتاز بالسكينة ولا أتعب أحدًا بأدق أسراري التي أدفنها في حديقتي الخلفية، فينبت من رفاتها أشجار الخوخ التي تحمل أوراقها وزهورها تلك الأسرار والحكايا وتحفظها بأمان عن أفواه آكلي الأحاديث بالغيب.
لا أفتش خلف أسرار العالم بالتبعية، فليحيا الجميع كما يحلو له ولينعم كما يحب.. أحب أن أعيش على قاعدة أنني بخير والجميع بخير وكفي بكل نفس ما بها وما فيها.
ليكن صباحك هادئًا ونفسك مستقرة يا لقاء الحبيبة، أفتقد الكتابة لك جدًا وكنت أعيد قراءة رسائلنا الفائتة بنهم المرة الأولى.. استوقفتني بطولتك الصغيرة وذكرتني ببطولتي منذ 3 سنوات حينما أنقصت من وزني الكثير بعد فطام الصغيرة، لم يكن هينًا الامتناع عن السكريات وتقليل النشويات وتجرع اللبن بدون دسمه، ولكن النتيجة كانت رائعة.. لهذا أتنبأ لكِ بذات النتيجة، فقط واصلي للنهاية، حتى وإن أصابك نقص السكر بعدم اتزان وأضفى عليكِ مسحة من الهبوط الكئيب.
فهبوط مقاساتك درجتين مثلاً سيرفع من روحك إلى ما هو أبعد من سبع سماوات.. والاستغناء عن ملابسك القديمة بأخرى أجدد وأصغر سيجعلك تنتشين.
أتعرفين؟ أعتقد أنني الآن مصابة بهوس المحافظة على وزني الجديد، رؤية الأرقام وهي تتغير بسرعة مقلقة على الميزان تجعلني متوترة بشدة.. آه لو وجدتني قد زدت 200 جرام مثلاً! أبتئس وأعود إلى النظام الغذائي القاسي لأسقطها من محيط خصري حيث تحب تلك الدهون المخزنة أن تختبئ.
أصاب أحيانًا بعقد الذنب وأخبر نفسي أن عليّ الاستمتاع قليلاً، خصوصًا أن الشتاء يجعل يديّ تذهبان خلسة إلى حيث رف الشوكولاتة وعلبة الكاكاو وأكياس السحلب وأطباق الفشار.. لا أقاوم محشي الكرنب وشوربة العدس وطعمية الإفطار الساخنة، وعندما أكون في المكتب أجدني لا أقاوم الأكل مع الأصدقاء، فرفقتهم تفتح شهيتي على وسعها، حتى وإن كنت متناولة إفطاري قبلاً، وإذ ما أتاني “أحمد” وفاجأني بقطعة تارت مميزة بالتوت الأحمر والفراولة أشعر لحظتها بقمة الامتنان لأنني تزوجت بمن يُقدّر هيامي بالتارت ويقدر عشقي لبسكويته الهش الذي ينكسر بأقل جهد، منغمسًا في الكريمة السكرية الرائعة.
هل اللذة خطيئة؟ وهل الأكل خطيئة يا لقاء؟ أتساءل عن هذا وأنا أكتب كل تلك الملذات وأتخيلها وإفطاري اليوم كان رقائق ذرة خفيفة مع كوب لبن خالي الدسم وقطعًا من الفراولة التي نثرتها على وجه الطبق لتجعل مزاجي رائقًا.
المُغريات تحوم من حولي، ولكني سأصمد قدر استطاعتي ولتصمدي أنتِ أيضًا، وليمر هذا الشتاء بسلام يا رب قبل أن أفيق على أرقام الميزان الجنونية.
أعتقد أنني سأنهي رسالتي لكِ الآن، فأنا مستيقظة منذ السادسة لأحضّر حقيبة الصغيرة وأضع لها شطائرها وأوقظها لتبدأ يومها الدراسي، يُحزنني أنني سأترك صباحًا حلوًا كهذا وأخلد للنوم ثانية، كنت أريد أن أوقظ سيارتي من مرقدها وأجوب بها شوارع “زايد” الواسعة.. أو أتمشّى قليلاً على قدميّ متفقدة الحي الذي يقع فيه بيتي، أو حتى أصعد ولو لنصف ساعة على المشاية الرياضية فأحرق بعضًا من الدهون الخبيثة التي لا أراها وأنهي على بعض الأفكار السوداوية وأُخرج التوتر من مساماتي المتعرقة، ولكن الساعتين المخطوفتين من صباحي يُعيناني على مواصلة اليوم وإنهاء عملي وإتمام الغداء، ثم إعادة المطبخ إلى حالته البراقة من جديد بعد معركتي الصغيرة مع الأواني، حتى يأتي عليّ الليل فأتمدد في السرير مع كتاب “قواعد العشق الأربعون” الذي أقرؤه من جديد، ويرافقني كوب من الشاي الأخضر حتى لا تثقلني ذنوب الوزن.
“بتمر الليالي وبتروح الليالي
وبعدك على بالي“.
شكرًا على الرفقة يا لقاء، لأيامي طعمًا خياليًا بكِ..
سأنتظرك.