غزة – القاهرة 3: ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلاً

856

لقاء

تم نشرة في 01/22/2016

وقت القراءة : 4 دقيقة

 

بعدك على بالي.. يا حلو يا مغرور

يا حبق ومنتور على سطحي العالي

 

إنه الفجر غاليتي دينا..

أكتب لكِ رسالتي فجرًا لأنه الوقت الذي تتوافر فيه الكهرباء، إذ تمر مدينة “خان يونس”، مدينتي الباسلة بأزمة جديدة من سلسلة أزمات لا تنتهي فيما يتعلق بالكهرباء، فمنذ ثماني سنواتٍ ونحن ننعم بما يقارب عشر ساعات من الكهرباء يوميًا فقط لا غير، وتلك هي الأزمة الدائمة، أما الأزمة الجديدة فتكون حينما تتقلص الساعات العشر لخمس فقط، طبعًا لن أتحدث في أسباب ذلك وإلا لتحولت هذه الرسالة لرسالةٍ سياسية، وهذا آخر شيءٍ نود أن نتحدث فيه بالتأكيد.

 

عذرًا على هذه المقدمة غاليتي، باشرت الفضفضة قبل أن ألقي التحية، صباحكِ سكر على طريقة القيصر، عسى أن تكون كل أيامك رائعةٌ كروعة الصباح الذي تصفينه. افتقدت رسالتكِ جدًا، واشتقت للكتابة إليكِ، ومر هذا الأسبوع وكأنه دهر، حتى شعرت أني لن أبلغ نهايته أبدًا، فبالرغم من أن بداية الأسبوع كانت رائعة جدًا حيث اجتمعت السبت بصديقات الطفولة “رولا” و”أماني” وقضيت وقتًا ولا أروع، لكني في نهاية اليوم اصطدمت بخبرين وقعا عليّ كصاعقةٍ من السماء، الأول انفصال واحدة من صديقاتي عن حب عمرها، والآخر مرض والدة صديقتي المقربة. وهكذا بعد أن كان الفرح يملؤني، أجدني أشعر بخواءٍ كبير وكأن أحدهم امتص روحي. أشعر بالخيبة الممزوجة بالعجز يا دينا، وألعن المسافات التي تمنعني عن أن أكون بقرب الصديقتين، وأكتفي بالدعاء لهما فقط، في الوقت الذي أرغب أن أكون بجوارهما بكل كياني.

 

الحزن الذي يعتمل بداخلي على صديقتيّ يغريني لأن أحول هذه الرسالة لما يشبه المرثية، لكن لا أعتقد أن هذا يصح أمام سيل الجمال الذي يقطر من رسالتك، لذا ستكون رسالتي نابضة بالجمال هي الأخرى، حيث سأصحبكِ في جولةٍ صغيرةٍ في مدينتي الجميلة “خان يونس”، خصوصًا أن هذه الأيام أيامُ شتاءٍ، حيث يزدهر الخير في كل مكان في قطاع غزة.

 

قبل الحديث عن مدينتي لأعترف لكِ اعترافًا، أنا لم أحب القاهرة مطلقًا ولا أظنني سأفعل، فمن الصعب على فتاةٍ عاشت عمرها في مدينةٍ ساحلية أن تحب أي مكانٍ مزدحم، فما بالك بالقاهرة إلهة الازدحام! كانت لي أيام في القاهرة، شبين الكوم، العريش، طنطا، المنصورة، وكلما تذكرت أيامي في القاهرة لعنتها مرارًا وأنا أتذكر الازدحام، الضوضاء، والرائحة الخانقة التي لا تدري لها مصدرًا. حقًا أشفق على ساكني القاهرة، وأشفق على نفسي حين يأتي اليوم الذي أضطر للوجود فيه في هذه المدينة القاهرة بالفعل. لذا ثقي تمامًا أنكِ لم تخسري الكثير حين ابتعدتِ عن العاصمة وسكنتِ “الشيخ زايد” التي لا بد أن تبتهلي إلى الله أن لا يزحف إليها المد العمراني وتصبح قاهرة أخرى.

 

عن نفسي أعيش في مدينة “خان يونس”، مدينة ساحلية زراعية، حيث يفصلني عن البحر مدة 30-45 دقيقة سيرًا على الأقدام، وعشر دقائق بالسيارة. أقل من ساعة أو بضع دقائق وأجد نفسي أمام مساحةٍ شاسعةٍ من الأزرق الهادئ الجميل، القادر على وضعي في حالة من الصفاء والسلام النفسي بمجرد أن أقف أمامه بضع دقائق لا غير. أعيش في وسط المدينة التي تُعد أكثر الأماكن ازدحامًا في “خان يونس” ومع ذلك لم أشعر أبدًا بأن هذا الازدحام مشكلة على الإطلاق سوى في الأعياد، وفي الأعياد أعيش حالة من البهجة تجعلني أغفر للمدينة هذا الذنب الصغير. لا أدري أي محافظات مصر الأقل صخبًا بالتحديد، لكني أعتقد أن “خان يونس” تشبهها بالتأكيد.

 

في “خان يونس”، إذا مللنا البحر -وهذا لا يحدث بالطبع- نعطي ظهورنا للغرب، ونولي وجوهنا جهة الشرق، حيث اللون الأخضر البهي للأراضي الزراعية وحدائق الفاكهة وخصوصًا حدائق الحمضيات التي يصادف موسم قطافها هذه الأيام، بالإضافة لموسم قطاف الفراولة. لست أدري غاليتي دينا أي الموسمين أبهى جمالاً، قطاف الحمضيات حيث يمتزج أصفر الليمون، ببرتقالي البرتقال، وأخضر البوملي ليصنعوا لوحة تقطر بالخفة والبهجة، أم قطاف الفراولة حيث يمتزج الأخضر بالأحمر ليصنعا لوحة تفيض بالحيوية والجمال. سأترك لكِ أنتِ الحُكم، فقد أرفقت برسالتي بعض الصور للموسمين، فكوني أنتِ الحكم بينهما.

 

بلادي رائعة، معطاءة، جميلة، ومليئة بالخيرات. حينما أفكر في جمالها كحالي الآن، أشعر أني ممتنة لها جدًا، وأحبها بشدة، وأنني حينما كنت أعلن عن كرهي لها إنما كنت أكره الظروف السوداء المفروضة على أرضٍ محتلة. بلادي جميلة وكل ما أتمناه أن تظل هكذا للأبد. أنا خائفة جدًا يا دينا من أن تتحول هذه البلاد الطيبة يومًا ما لأطلالٍ، فقد تكفلت الحرب الأخيرة بتحويل مناطق سكنية كاملة لأطلال مهدمة تنعق فيها غربان الموت بعد أن كانت تضج بالحياة. لكن أتعلمين شيئًا؟ هذه البلاد لن تصبح يومًا أطلالاً طالما نحن نحيا على أرضها، هذه البلاد معطاءة وولاّدة وحينما يسقط شهيدٌ فيها يولد عوضًا عنه مائة آخرين، نحن لن ننتهي أبدًا بإذن الله، فنحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلاً كما يقول محمود درويش، ولن نعجر أبدًا عن إيجاد السبيل لنحيا، فالأرض، والشجر، والحجر مسخرون لنا، فإن ماتت حياة فنحن قادرون على أن نصنع ألفًا غيرها، لذا لن تصبح بلادي أطلالاً، يمكنني أن أقول لك الآن إني لم أعد خائفة على الإطلاق.

 

غاليتي دينا.. أعلم أن رسالتي هذه ستثير في نفسكِ الشوق لزيارة غزة، فاعلمي أن بقدر ما تشتاقين لها فهي تشتاق إليكِ أيضًا، وتشتاق لكلِ محبٍ لها. غزة الطيبة تعرف أحبابها جيدًا وترسل إليهم السلام، عسى أن يأتي يومًا تكون فيه غزة قادرة على احتضانك يا دينا واحتضانهم جميعًا، وإلى ذلك الحين لا تنسيها من صالح دعائك وطِيب ذكرك.

 

إلى هنا تنتهي رسالتي إليكِ، رغم أن الحكي بداخلي لم ينتهِ، لكني أشفق عليكِ من الاستماع لبوحي الحزين، يكفيني ويكفيكِ ما مر علينا في الأسبوع المنصرم. وكعادتنا في إنهاء رسائلنا بأغنيات فيروز، دعيني أغني لكِ:

“سلم لي عليه، وقله إني بسلم عليه

وبوّس لي عينيه، وقله إني ببوّس عينيه

إنت يا اللي بتفهم، سلم لي عليه سلم”

 

سلاماتي وقبلاتي لروحك الجميلة حبيبتي دينا ولطفلتك الرقيقة جنى.

كوني بالقرب دومًا، وكوني بخير.

 

المقالة السابقةلماذا لا ترتدي إنجي التوكة؟!
المقالة القادمةأدهم صبري.. رَجُلي المُستحيل

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا