أدهم صبري.. رَجُلي المُستحيل

1020

“إلى أدهم صبري..

إلى سارة محمود كامل..

وإلى نفسي في زمنٍ مضى”.

 

تقول لي أُمي إنها هي التي حببتني في القراءة، إذ اعتادت أن تقُص عليّ حكايات منذ طفولتي، للدرجة التي جعلتني في سن ثلاث سنوات أو رُبما أصغر؛ أصبحت قادرة على سَرد حكايات كاملة على مسمع ومرأى من الكِبار.

 

أحببت الكُتب رُبما قبل حتى أن أُجيد القراءة، وإن كانت أمي هي من حببتني فيها، إلا أن والدي هو الذي أتاح لي مُمارسة هذا العشق، فكان دائم جَلب المجلات لي من نوعية “ميكي” و”علاء الدين” بشكل أسبوعي، مع زياراتي الدائمة للمكتبات واستعارة المزيد من القصص، قبل أن أعرف طريق معرض الكتاب ويتحول إلى قِبلة يأخذني والدي إليها كل عام، فأذهب بشوق، أيدٍ مُرتعشة، وحماس.

 

لا أتذكر بالضبط متى بدأت في زيارة المعرض بشكل سنوي، لكني أتذكر شعوري في كل مرة كنت أعود فيها لمنزلي مُحملَّةً بالكثير والكثير من الكُتب، أفرد الكُتب أمامي، أُمرر يدي عليها لأشعر بملمس الأوراق الجديدة، أتشمم رائحتها، ثم أبدأ في التهام الكُتب واحدًا تلو الآخر.

 

ظلّت قراءاتي مُقتصرة على “المكتبة الخضراء” و”تان تان” وقصص الأطفال المُختلفة حتى سِن الحادية عشر، ذلك العام الذي تعرفت فيه على “سارة”، انتقلت لمدرستنا حديثًا وتُحب القراءة مثلي، الفارق بيننا أنها كانت تتحدث أمامي عن كُتب لم أقرأها من قبل، تعود كلها لسلسة “روايات مصرية للجيب”.

 

تلك السلسلة التي كانت أول كَسر لشرنقة طفولتي نحو عالم الكِبار، ورُبما لا أُبالغ حين أقول إنها أحدثت الأثر نفسه في حياة الكثير من أبناء جيلي (جيل الثمانينيات). وفي حين تعلق الغالبية العظمى بسلسلة “ملف المُستقبل”، “ما وراء الطبيعة”، أو رُبما حتى “فانتازيا” و”زهور”.. لم أجد أنا نفسي إلا في عالم “رجل المُستحيل”.

حيث رجل المُخابرات مُتّقد الذكاء، قوي الجسم، وسريع البديهة، يُحب وطنه بلا حدود، ويسعى لإرضاء الله في أي مكان وتحت أي ظروف، والذي يُخلص لحبيبته (الرائد منى توفيق) مهما كانت المُغريات، حتى ولو ظل وحيدًا عُمرًا بأكمله مع “دونا كارولينا” أو “سونيا جرهام”.

 

“أدهم صبري”.. ذلك الرجل الذي ينتصر على كل الأشرار في ثوانٍ معدودة، يغوص فيها لأسفل، أو يقفز لأعلى، بل ورُبما فعل الشيئين معًا في الوقت نفسه. كل هذا بجانب قُدرته العبقرية على التنكر وتقليد الأصوات دون أن يكتشفه أحد.

 

هل كان د. نبيل فاروق يخدعنا حين كان يُصَوِّر لنا الأمر بتلك الطريقة، مُعتمدًا على أن من يقرأ له صغار، سيُصدقون ما يكتب، تاركين جماح خيالهم يقودهم؟

رُبما.. وإن كان فعل ذلك فقد كان مُحقًا، إذ ها أنا الآن أكبر عُمرًا، واختبرت من الحياة ما يكفي لأشعر ببعضٍ من سذاجة لأنني كنت أُصدق كل ما أقرأ بالحرف، لدرجة أنني في مرحلة من حياتي كُنت دائمة الدفاع باستماتة عن مُغامرات “أدهم”، رافضةً الاستسلام أمام أي مُحاولة -ممن هم أكبر سنًا- لعدم رفع سقف توقعاتي وأن أتعلم كيف أفصل بين الخيال والواقع.

 

والنتيجة؟

النتيجة كانت أن “أدهم صبري” ظل فارس أحلامي لسنوات وسنوات، حتى أن بطل أحلام يقظتي ظل اسمه “أدهم” للأبد، حاملاً في جيناته الكثير من صفات رجل المُستحيل التي أحببتها، قبل أن تُعلِّمني الدُنيا الأدب، وأعرف أننا في زمن المُستحيل فيه مُستحيل، فلا أجد بُدًا من غَربَلة أحلامي وأمنياتي.

 

أحببت “أدهم صبري” حتى صار قُدوتي ومثلي الأعلى في وقتٍ كُنت فيه أنقى وأطهر مما أنا عليه الآن، أو رُبما أكثر إيمانًا وبراءةً. وفي تلك الفترة تحديدًا واتتني الثقة والجرأة لأن أُرسل خطابًا طويلاً جدًا لنبيل فاروق، مكتوب مني لـ”أدهم”، أُخبره فيه كم أُحبه، أؤمن بأنه حقيقي، وأشكو فيه حال الشباب وقتها، وكيف لا يُشبهونه.

 

الغريب أن نبيل فاروق نشر خطابي كاملاً، والذي شَغَل 6 صفحات كاملةً بأحد أعداد سلسلة “كوكتيل”، والذي لن أُخبركم عن اسمه بالطبع حتى لا تقرؤون الخطاب، وتعرفون عني ما لا أود لكم أن تعرفونه.

 

والآن بعد أن صِرت في الواحدة والثلاثين، هل تظنون أنني عِقِلت؟

إليكم ما حدث.. مُنذ عدة أشهر اكتشفت أن والد صديقة لي يعمل في المُخابرات المصرية، فكان رد فعلي الأول والأخير أن قُلت لها “أرجوكي قوليلي إن أدهم صبري شخص حقيقي”.

ورغم ما يعكسه ذلك من طفولة أو رُبما سذاجة كما وصفت الأمر بالسابق، لكنني يصعُب عليَّ أن أهدم كل ذكريات طفولتي ومُراهقتي، ويصعُب عليّ أكثر أن يكون من المُستحيل وجود ولو رجل واحد في العالم مثل “أدهم”، فمثل هذا الاحتمال يُصيبني بالحُزن، لأنه لا يعني سوى أننا مَن خذلنا الحياة، لا هي من خذلتنا.

 

وبالتالي.. ومع تنحية حقيقة كَوني امرأة ناضجة الآن، وأن الحياة من المُفترض لها أنها “عَلِّمت عليّ” وأنني “كبرت وكده”، دعوني أستغل تلك المساحة لأُرسل رسالة جديدة لفارس الأحلام المثالي الأول والأخير.

 

عزيزي أدهم..

عساك بخير حال، لا أخالك تتذكرني، لكنني نفس الفتاة التي أرسلت لك خطابًا مُنذ ما يقرُب من 16 عامًا. لقد كبرت يا أدهم، كبرت وتزوجت وأصبحت أُمًا. كبرت سنًا لكنني ما زلت أخاف، أتعثَّر، فلا يسندني سوى الخيال، والأحلام التي أبنيها لتصل بيني وبين المُستقبل.

كبرت يا أدهم، لكنني من داخلي في مكانٍ ما، ما زلت الفتاة ذات الـ15 عامًا، التي اعتادت أن تقرأك يوميًا، وأن تقُص عليك ما يُرهقها ويفوق احتمالها. ولأنك لطالما كُنت أحد نقاط ارتكاز ذلك الخيال، أريد أن أُخبرك كم أنا مَدينة لك بالصمود في أوقات كثيرة كان يُمكن أن أنكسر فيها دون رَجعة، وأنك أحد الأسباب التي جعلتنى أؤمن بالحُب.. المثالية.. وأبجديات الإنسانيات التي لا أرى الحياة تقوم دونها.

محبتي الخالصة لك دائمًا وأبدًا.

المقالة السابقةغزة – القاهرة 3: ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلاً
المقالة القادمةما هي فوائد القراءة والمطالعة وأهميتها للعقل
امرأة ثلاثينية متقلبة المزاج، أعشق الرقص على السطور كتابةً، أُحب الفن بمختلف أنواعه وأعيش عليه. والآن كبرت وصار عليّ أن ألعب في الحياة عشرات الأدوار طوال الوقت، لأستيقظ كل صباح أُعافر حتى أستطيع أن أُحاكي بهلوانات السيرك فأرمي الكُرات المُلونة بالهواء ثم ألتقطها كلها في آنٍ واحد.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا