غزة – القاهرة 1: راجعين يا هوى راجعين.. راجعين للبهجة راجعين

1499

لقاء

تم نشرة في 12/26/2015

وقت القراءة : 4 دقيقة

 

الغالية دينا/

مسائي جميل فقط لأنه حمل لي كلماتك العذبة الرقيقة، عسى أن يكون مساؤك أجمل حبيبتي.

 

هذا الوصف الرائع للأجواء من حولك، يجعلني أرغب في طي المسافات ما بيننا طيًا، لأقفز بجوارك أشاركك دفء حضورك، وجمال طفلتك النائمة، وفنجان الشاي أيضًا. لا أدري سر ولع الجميع بالقهوة، لكني أتفهمه، فأنا أملك الولع ذاته وأكثر ناحية الشاي، الولع الذي بلغ أن واحدًا من أهم شعاراتي في الحياة هو “لو كان الشاي رجلاً لتزوجته”.

 

جميلة هي كتابة الرسائل، الأجمل أن أكتب لكِ أنتِ تحديدًا يا دينا، أتذكرين يوم قلت لكِ أنكِ تعودين بي إلى طفولتي، حيث تذكريني بمعلمة المَدرسة الجميلة التي نسعى دومًا لننال إعجابها، حتى نحظى ببعض الكلمات المشجعة، وقبلة على الخد، ونجمة في الدفتر. الآن أكتب لك وأنا أشعر أنني “نوجة” وأنتِ “ميس تهاني” بطلتا فيلم “في شقة مصر الجديدة”. تعلمت “نوجة” من “تهاني” الحب، وتعلمت أنا منكِ الجمال، عندما كنتِ توزعين الحب والدعم علينا نحن كاتبات باب “كلامنا ألوان”، الباب الذي كان ألوانًا حقًا بكلماتك الطيبة المفرحة.

 

جميلةٌ أنتِ يا دينا، ولا أعتقد أن شخصًا بطيبة قلبكِ سيتخلى الله عنه، الله معكِ ولن يفجعكِ في والدتك أبدًا، هي شدةٌ وستزول، وستعود ضحكات عين والدتك ترن من جديد. لن تتخيلي حجم الألم الذي شعرت به عند قراءة كلماتك، لن تتخيلي حجم العجز، وددت حينها لو كان ما بين القاهرة وغزة جسر حقًا، حتى آتي لاحتضانك، فوحده الحضن قادر على ترجمة مشاعري تجاهك. سحقًا للمسافات التي لا تجعل بيدي غير الدعاء لكِ فقط، وبضع كلماتٍ ليست كافية لتصف ما يعتمل في صدري أمام حزنك هذا.

 

أتفهم مشاعركِ تجاه الفقد جيدًا، أنا أيضًا مررت بهواجس فقدان والديّ في طفولتي. أتذكر نفسي في الصف السادس الابتدائي في منزل صديقتي ورفيقة طفولتي “أماني”، كنت دومًا أحدثها عن مخاوفي من موت أحد والديّ، كنت أبكي بمرارة شديدة وأنا أعدّ على يديّ المتبقي لهما في الحياة، فبمنطق الطفلة الصغيرة كنت أعتقد أن الجميع يموتون في الستين. كبرت الطفلة الآن وأدركت أن الموت لا يميز أعمارًا، فحين يجيء الأجل، لا يهم إن كان الشخص في العشرين أو الستين. كنت أتمنى أن تزول هواجس الموت والفقد بانتهاء طفولتي، لكن ما حدث أني كبرت، وكبرت هي معي.

 

تظل الهواجس بداخلي دائمة يا دينا، حتى يوقظها موت أحدهم حولي، فأعيش أسوأ أيام عمري. أعيش جحيمًا مقيمًا لا فرار منه إلا إلى الله، الذي أظل أبتهل له حتى يمد في عمر والديّ، أظل أرجوه أن يأخذ من عمري ويضيف لعمريهما، على الأقل حتى يشتد عود الصغيرين. لا أدري إن كنتِ تعلمين أني وإخوتي ثمانية، لم يعد بيننا أطفال سوى “حاسم” و”سلافة”.

 

“حاسم” و”سلافة” الصغيران اللذان أصبحا حطب هواجسي وهواجس والديّ أيضًا، فهما يفرطان في تدليلهما، فتشب نار الغيرة في قلبي وقلوب إخوتي، وحينما نعلن تذمرنا وتمردنا، يخبرنا والدي “أنا يمكن ما أعيش لهم زيكم”، فأصمت، أصمت يا دينا، لكن الخوف والوجع بداخلي يصرخان.

 

سامحيني دينا لغياب البهجة عن رسالتي أيضًا، فحال والدتك أيقظ بداخلي الهواجس. ولا تلومي نفسك أرجوكِ وتأكدي أن البهجة التي تحسبين أنكِ لم تستطيعي بثّها في رسالتك وصلتني كاملة يا صديقتي، فلا عليكِ. يكفيني أن تفتحي لي قلبك وتشاركيني همومك، يكفيني قربك، فهو البهجة الكاملة.

 

سأسمح لنفسي الآن أن أنحّي الهواجس الكئيبة جانبًا، ولنتحدث عن… لا أدري عن ماذا تحديدًا. مممم لنتحدث عن فيروز.. نعم نعم، لتكن فيروز.

 

فيروز التي أصبحت حاليًا من مرادفات العمق، والتي أصبحت أسمعها سرًا هروبًا من تهمة الادّعاء. أشعر بكِ الآن وقد عبستِ، فأنا أعلم أنه يغضبكِ ربط فيروز بالعمق، فما زال مقالكِ الرائع “بتحب فيروز؟ تبقى عميق” حاضرًا في ذهني. دعي عنكِ الغضب، فحديثي بعيدًا عن العمق، حديثي عن غزة، عن صباح غزة بنكهة فيروز.

 

الصباح في غزة فيروزي يا دينا، فعدد لا بأس به من السائقين هنا يبدؤون اليوم بها، ومن لم يبدأ بفيروز يبدأ بالقرآن أو الأخبار. في معظم أيام دراستي الجامعية كان حُسن الحظ يجعل صباحي فيروزيًا، والصباح في غزة يبدأ الساعة السابعة. وما يجعل الصباح أكثر جمالاً أن صوت فيروز ينبعث من راديو السيارة، وأنتِ بالتأكيد تعرفين أي جمالٍ سنستمع إليه حين يختلط صوت فيروز بخشخشات الموجات الصوتية، جمالٌ يغيب عن التسجيلات عالية الجودة.

 

فيروز في غزة يا دينا لا تعني فقط “زهرة المدائن، لا أنساكِ فلسطين، وشوارع القدس العتيقة”، فيروز في غزة أكبر من مجرد غضبٌ ساطعٌ آتِ. فيروز في غزة الحب والحنين والمراسيل ما بين الأحبة. فيروز في غزة “بكتب اسمك، سلملي عليه، راجعين، وكتبنا وما كتبنا”.

 

أنا لا أدعيّ عمقًا في حب فيروز، فقد كبرتُ على صوت فيروز، وغنيت لفيروز، حتى أنكِ حتمًا ستجدين مع خمسة من أصدقائي على الأقل تسجيلاً لي وأنا أغني “سألوني الناس”. لست متأكدة من أن صوتي جميل، لكن أصدقائي يؤكدون، لذا حينما تستمعين يومًا إليّ ولا يعجبكِ غنائي يمكنكِ أن تحاسبيهم بدلاً عني.

 

وبعيدًا عن الأصدقاء استمع لي واحدٌ ممن يحسنون التقييم، كان تسجيلاً لأغنية “راجعين”، يومها أخبرني أن صوتي جميل وأغني بإحساسٍ عالٍ، فقط يعيبني أني أغني على استحياء، وأن عليّ أن أكون أكثر جرأة وانطلاقًا في الغناء. أتذكر جيدًا رغم مرور أكثر من خمس سنواتٍ، أنه قال لي إن صوتي يليق بأغنية “قديش كان فيه ناس”، مع ذلك حتى يومنا هذا لم أعرف كيف أغني هذه الأغنية، أتدرين لماذا؟ لأنني ما زلت أغني على استحياء، ولا أدري إلى متى سأظل هكذا يا دينا، لا أدري حقًا.

 

أعتقد أني سأنهي رسالتي الآن، فالسؤال الأخير يغريني بالعودة للكآبة مرة أخرى، لكني لن أفعل، فلن أبدد جمال الحديث عن فيروز، الذي أرجو أن يكون قد بدد شيئًا من وحشة هواجسنا، وتأكدي أن الرسائل الآتية بيننا ستحمل الكثير من الأحاديث الشيقة والمبهجة، فالجسر ما بين القاهرة وغزة امتد الآن، وسيظل ممدودًا دائمًا وأبدًا.

 

“راجعين يا هوى راجعين”

راجعين يا دينا للبهجة راجعين..

كوني بخير غاليتي.

المقالة السابقة15 عادة غذائية تعلمتها من الحمل
المقالة القادمةخمستاشر صفة مميزة لزوجتك الصحفية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا