القاهرة – غزة 1: وليكن لنا من اسمك نصيب

1073

مساء جميل يا “لقاء“..

 

لعلك بخير وأحوالك جيدة في هذا الشتاء الرائع والأجواء الكريسماسية التي نقبل عليها في نهاية هذا العام.

أجلس الآن متكورة تحت الغطاء الثقيل أحاول أن أحشد الكلمات في رأسي لأقرر ماذا سأكتب لكِ تحديدًا، وعن من سأحكي لكِ.. أضم في يدي كوبًا من الشاي بعد امتناعي القسري عن قهوتي الحبيبة، وأستمع لصوت أنفاس ابنتي المنتظم وهي نائمة في دفئي.. جو مثالي يليق بالرسائل والحنين وإلحاح أغنية “قد إيش كان فيه ناس” على اذني.

 

كم جميلةٌ هي فكرة كتابة رسالة لكِ أنتِ تحديدًا، بعد كل تلك الإيميلات المتبادلة بيننا منذ “كلامنا ألوان” وقراءة مقالاتك العذبة وكلماتك الحلوة التي كنتِ تهدينني إياها في لحظات كنت فعلاً في أمسّ احتياج لكلمات طيبة كتلك.

هل تؤمنين بالقلوب المتآلفة رغم كل تلك المسافة؟ رغم أننا لم نرَ بعضًا أبدًا ولم نتحدث إلا قليلاً وفي إطار محدود جدًا.. ولكن أشعر بأنك كالأصدقاء القدامى لي، كهولاء الطيبين الذين أستطيع الاحتماء فيما بينهم من الخذلان وتفتت حيلتي حين يأتي التعب واليأس إلى أبوابي.

 

لهذا فالكتابة لكِ الآن كمد جسر طويل بين القاهرة وغزة نستطيع معه اللقاء، وليكن لنا من اسمكِ نصيبًا حتى لو كان لقاءً عبر الورق وفي الخيال.

 

كنت أريد للرسالة الأولى أن تحوي الكثير من البهجة والفرح، أن أحدثك فيها عني وعن المجرات التي أقطعها يوميًا بين زوجي وابنتي وأسرتي، عن حب الكتابة والكروشيه وأوراق الدفاتر القديمة.. عن الياسمين المُزهر في حديقتي الخلفية ومشروب الكاكاو الذي بات رفيقًا ليعوضني غياب القهوة، عن “فيروز” و”أديل” و”ياني” حين أنحبس في أغاني ومقطوعات محددة لا أنفك أعيدها بأمان شديد لكل نغمة أحفظها وكل كلمة، حيث لا مجال لمفاجآت الأغاني الجديدة أو خيبات مجيئها أقل من توقعاتي.. عن “نون” والعمل والرفقة الجميلة للأصدقاء، عن الأحلام التي تنتظرني بلطف حتى الآن ولم ينَلها اليأس من كسلي.

 

كنت أريد أن أحدثك عن كل هذا واكثر، وقد أستطيع في رسائلنا القادمة، أما حاليًا فقد فشلت في أن أضع نفسي في حالة جيدة وإن حاولت.. ولكن كلما مرّ مرض أمي في عقلي واقتحم أفكاري أجدني هناك، حيث آلامها وحزنها، وتلك التأوهات التي تصدر منها من حين لآخر، حين تتوجع ولا أستطيع أن أهون عليها حتى.

 

لا أصدق حتى الآن أنها مريضة لتلك الدرجة، وأنها تتردد على المُستشفى البائس بكثرة.. بتنا نقطع أروقتها أسبوعيًا نتحلق حول جسدها الذي نحل ووجها الشاحب، أخبر نفسي كل يوم أنها ستكون أفضل غدًا، وسأجدها واقفة بصحة في مطبخها الذي تحبه وتصنع أطيب الأكلات كعادتها، فلا أحد له “نَفَس” أمي في الطعام.. أحدثها فأجد صوتها مكسورًا وهمته ضعيفة فأمنع نفسي من البكاء وأخبرها أن غدًا حتمًا ستكونين أفضل.. وننتظر جميعًا هذا الغد أن يأتي.

 

بدأت تزورني هواجس الفقد بشكل شبه يومي كما الماضي، حين كنت صغيرة وتلبّستني تلك الهواجس بأن أمي ستموت قريبًا.. كنت في الثالثة عشر من عمري حينها، وكنت أبكي بدون أسباب حقيقة لفقدها، فلم تكن مريضة أو تعبة ولم يصِبها مكروه، ولكنني شعرت بأنها ستذهب بلا رجعة.. كنت أستيقظ ليلاً وأتسلل إلى حجرتها وأقف قريبًا منها أراقب حركة صدرها وهو يعلو ويهبط؛ أطمئن وأطبع على وجنتها قبلة وأرحل، حتى باغتتني مرة وأخبرتها بهاجسي المؤلم فضمتني بقوة وقالت لي بأن لا أقلق، فهي هنا دائمًا.

 

الآن لا يحتوينا ذات المنزل، فأذهب لأراقب تنفسها المنتظم فتستيقظ وتضمني وتخبرني أنها بخير.. الآن أنا وحيدة جدًا مع ذلك الهاجس الذي ينتصر عليّ يوميًا بعدم رحيله.

 

أسوأ ما في الأمر يا “لقاء” أن الحياة يجب أن تسير، وعلى العمل أن يُنجز، وعلى اليوم أن يأخذ مساره الطبيعي بكل آلية، وعلى الأفكار أن تتنحى جانبًا كي أستطيع تأدية واجباتي التي لا تفنى.. حتى الابتسام والضحك عليّ أن أرسمهما، فلا ذنب لأحد أن يرى تَقلُب وجهي، أشعر بالذنب الشديد لحظتها ويفترسني إحساس التقصير.. أمي مريضة وأنا أضحك وأمارس فعل الحياة.

 

لو يقف العالم ويسكن فقط لثوانٍ فلا أفارقها ولا أنشغل عنها ولا أبتسم غصبًا.. أن لا أفكر سوى فيها وفي التهوين عنها وأن أضمها كما كانت تفعل حين أرتجف خوفًا، فهي حتمًا خائفة وتسيطر عليها هي الأخرى هواجس الرحيل عنا في أي لحظة.

 

في كل مساء وقبل أن أهبني للأفكار السوداء والنوم، أدعو الله أن يخفف عنها وعنا، ثم أرجوه إن جاءت تلك اللحظة الأليمة ليمنحني القوة والسلام لتقبلها، وأن يمنحني الوقت للحزن بشكل لائق على فراقها، وأن يدعمني بسنده للاستمرار.

 

كم أعتذر يا صديقتي على المأساة التي تحملها رسالتي الأولى لكِ، صدقيني حاولت، ولكن لم أستطع الانفصال عن مشاعري، وهذا شيء جيد في الواقع، أنني لم أتجمّل بالفرح الزائف وشاركتك صدقًا من تلك المشاعر.. سأنتظر بشدة رسالتك الأولى، ولتحمل هي الأخرى ذات الصدق، حتى لو سكبنا على العالم حزنًا فلا أبالي.. لنجد الراحة والسكينة في تلك الرسائل علّها تأخذ الوجع بعيدًا.

 

سأختم دومًا الرسائل بجملة من أغنية فيروز تعبر عن حالتي، فلنفعل ذلك معًا.. ما رأيك؟

“ضحكات عيونه ثابتين ما بينقصوا”.

لتبقى يا أمي ضحكات عيونك فلا تخبو أبدًا.

 

سأنتظرك يا لقاء.

دمتِ بخير.

 

 

المقالة السابقة15 فيلم مُلهم شفتهم في 2015
المقالة القادمةخمسة عشر قرارًا غيرت حياتي

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا