لماذا نحن جوعى للحب؟

1445

بقلم: نيفين سرور

لماذا نحن جوعى إلى الحب؟! إن الخبرة بالنور لا تكون إلا بعد تمام الخبرة بالظلام، لذا نحتاج أن نفهم خبراتنا وتجاربنا التي مررنا بها، وتلك العثرات في العلاقات، والتي تركت فينا تشوهات نفسية، ربما كان سببها احتياج الأمان الذي لم يُسدد منذ سنواتنا الأولى، أو احتياجنا إلى الانتماء والحب.

لقد كبرنا دون أن تُسدد تلك الاحتياجات الضرورية لتقوية مناعتنا النفسية، ولم تُثبّث جذورنا الوجودية في الأرض، نمونا زمنيًا بالأرقام فحسب، دون نمو الوجدان، الذي كان يأنّ بشدة لشدة الجوع إلى الحُب. صرنا كورقة سقطت من فرع شجرتها، تزوي بها الريح وترسلها إلى أي مكان، أو كقارب يتهادى على سطح البحر ولا يعلم أين شاطئه ليسكن إليه.

لماذا نحتاج إلى الحب؟

لقد تعثرنا بالعابرين بنا وتعلقنا بهم، محاولين باستماتة استرضائهم أو ممارسة السيطرة عليهم لأجل أن نتملكهم، فشعور الوحدة غاية في القسوة، وكنا نفعل ذلك باسم الحب. أو ربما تعطشنا بشدة إلى ممارسة النجاحات والإنجازات بطريقة هوسية للغاية، كلما انتهينا من إنجاز نروم إلى الآخر، لا لشيء سوى جوعنا إلى الاهتمام، وكي نشعر أننا في مركز رؤية الآخر. كنا نتحسس بشهوة خفية قيمتنا لدى الآخرين، والغريب أننا كلما تعلقنا بشيء خارجنا باحثين فيه عن الحب والسعادة والسلام، خُذلنا وانكفأنا على أنفسنا، كأننا نود لو تفاوضنا مع الحياة كي تعيدنا ثانية إلى رحم الأم، ربما ننال هناك فقط الأمان والحب.

كان إحساسنا بعدم الشبع الجوّاني من العلاقات والإنجازات المهووسة والتعلق المريض بالآخرين وبالأشياء، يزيد فجوة عظيمة بداخلنا، ونشعر كأننا ارتمينا في هذا العالم بلا هدف ولا انتماء، بل هناك من حمل غضبًا شديدا نحو السماء، حتى اعترفنا بهذا العجز، وشعرنا باليأس من أن يُشبعنا العابرون بالحب والأمان، وبالغت الوجيعة فينا جذورها، وحاولنا باستماتة غريق يحاول النجاة، فالفراغ الوجودي قد تمكن منا واشتد شعور الاكتئاب بنا.

اقرأ أيضًا: حلم الارتباط والحب: لسة في الأيام أمل مستنيينه

سكة التعافي

بدأنا السير في سكة التعافي، أو إن شئت فقل سكة الشفاء والتحرر. وتدريجيًا شعرنا بالملء الجواني، وفهمنا أن اعترافنا بالعجز هو قمة التسليم لا الاستسلام، فحملنا العجز إلى قوتنا العظمى، وعلمنا أن العجز هو صُلب المواجدة. إنها لحظة تحولنا من الانقسام النفسي إلى الالتئام الوجودي، لحظة اتصال السماء بالأرض. بل دوت أخيرًا صرخة حبيسة بداخلنا: “لقد صنعتنا لك يا رب، فقلبنا لن يرتاح حتى يرتاح فيك” ،إنها صرخة الفيلسوف أوغسطين. فهمنا أن منطقة ما بداخلنا لن يقدر أي بشر على ملئها بالحب والأمان إلا الله، ولا يقدر أي بشر على سد هذا الفراغ العظيم بداخلنا سوى قوتنا العظمى. فهمنا أننا كنا في الحقيقة جوعى إلى الله، وإلى حُبه. وكلما سرنا في تعافينا امتلأنا جوانيًا بالحب، ولكنه الملء الحقيقي، لا الوهمي كما كنا من قبل.

يقول الكاتب ميخائيل نعيمة في كتابه مِرداد: “الحُب لا يُعرّي”، فالله يعيننا على السير في سكة التعافي مهما انتكسنا. وانطلقنا من هذه المركزية نحو الآخرين، بعد أن قضينا فترة في بيئة ساعدتنا على الشفاء، كبيئة العلاج الجمعي أو مجموعات المشاركة، وبدأنا في تكوين علاقات صحية لا اعتمادية مرضية، وإنما نحافظ من خلالها على حدودنا. وهذه أولى الخطوات نحو الشفاء من إدمان العلاقات وإدمان الحب، فنحن نحتاج إلى بيئة ننمو فيها، تمدنا بقبول لا مشروط وحب لا مشروط، نتعلم من خلالها كيف نعبر عن مشاعرنا ونحكي بصيغة “أنا أشعر بـ…”، التي افتقدناها زمنًا طويلاً، فلقد نشأ البعض منا في بيئة لا تمنحه حق التعبير عن مشاعره وآلامه، وربما عُوقبنا ممن هم أقرب إلينا إن أظهرنا ضعفنا. والأمر الآخر الذي يساعدنا على طريق التعافي أن نعترف بهذا الإدمان، نعترف به لأنفسنا بداية، فالاعتراف يفتح لنا بوابات الشفاء، بل وتأتينا بركات الله ودعمه لنا عندما نزيح الإنكار.

وأخيرًا.. فلنبدأ في الكتابة، نكتب عن مشاعرنا، وكل ما يجول بخاطرنا، ندخل بالقلم إلى مناطقنا الظلامية، محاولين أن نتحسس مخاوفنا التي نتقازم أمامها. لقد آن الأوان أن يتقازم شبح الخزي أمام صوتنا، فكم كان الصوت حبيسًا! ولطالما تغذى الخزى ونما على كتماننا، أما الآن فأصواتنا ما عادت حبيسة ما دام اعترفنا بحقيقة مرضنا.. أجل هكذا نقولها: “مرضنا هو إدمان الحب”.

ولكننا ما عدنا قادرين على شعور الخواء بداخلنا، أو انتهاك الآخرين لحقوقنا تحت مُسمى الحب، ولا أن ننتهك نحن قيمة وجودنا بذلك التعلق المرضي. وما أصبح في استطاعتنا أن يُستباح وجودنا أكثر من ذلك لأجل استرضاء الآخرين. لقد آن الأوان أن تخرج صرخاتنا الحبيسة من كهوف الظلام، لترتعد جنبات الخزي، ونسترد وجودنا الإنساني، بل ونعثر على معنى الحياة. لقد آن الأوان لموت القديم كي نستلم الجديد، فنحصل على فرصة أخرى لوجودنا وبعث حقيقي لنا. هنا فقط سنجد الشفاء.

اقرأ أيضًا: التخلص من العلاقات المؤذية: طريق الخروج ورحلة التعافي

المقالة السابقةفي حب داليدا والحياة
المقالة القادمةاتكلموا
مساحة حرة لمشاركات القراء

1 تعليق

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا