ولنا في حكايات الآخرين حياة

930

بقلم: ياسمين غبارة

لا أعلم ما الذي يجعلني أتمسك باقتناء أي كتابِ سيرة ذاتية وكأني طفلٌ وجد حلواهُ المفضلة على أرفف البقالة. أهو الصدق فيها، أم لغة الحَكي التى تتسلل بجميل التأثير، أم فضول لرؤية ما وراء ستار البشر والحياة؟! قد تكون هي حالة التساؤل التى تعتريني منذ صغري تجاه الشخصيات واتجاهاتهم في الحياة، فكنت دومًا في حالة استجوابٍ دائمٍ بشكل مباشر أو غير مباشر لكل من حولي، فأسأل أبي عن أيامٍ لم أكن فيها، عن جدي الذى لم أرَه: شخصيته، طباعه، عاداته، علاقته بجدتي، كيف كانت؟ وعلى ماذا كانا يختلفان؟

وكم استرعى انتباهي أولئك اللطفاء ذوي الشعر الرمادي، الذين يجلسون في أي تجمع عائلي.. باسمون، شاردون، يكسوهم ذلك الصمت الحزين المَهيب، الطفولي في ذات الوقت. أجد لديهم مغناطيسًا يجذبني ويجعلني أريد أن أعلم ما وراء تلك التجاعيد، أريد أن أرى تلك المشاعر المسؤولة عن كل هذا الشرود، وأزيح الستار عن ماضيهم الذي كثيرًا ما يذهبون إليه بالفِكر والحُلم. أختار مِقعدًا قريبًا منهم وأبدأ في التحية والسلام، والسؤال بعده سؤال، وأستمع إلى كل تلك الحياة.. إلى كل ذلك الشجن.. إلى تلك الأمور التي كانت كبيرة وأصبَحَت الآن صغيرة، تكاد لا تبدو في لمعة أعيُنهِم.

دائمًا ما أحببت أيضًا مادة التاريخ، لم أجد متعةً أو شفرةً في ذهني أستطيع أن أرى بها المعادلات الكيميائية والرياضية، ولكنني كنت أرى حصون وممالك التاريخ، وأشعر بصوتِ المعارك والفتوحات، وأكاد أرى الشخصيات أمامي على صفحات الكتاب. الشخصيات التي تجعل لكل الحكايات روحًا وذبذباتٍ نابضةً بالحياة.

وعندما أُمسك كتابَ سيرةٍ ذاتية أشعر بتلك النبضات، أشعر بالأنفاس وكأني أُمسك بيدي شخصًا اسمه على الكتاب، أجلس أمامه عندما أفتح الكتاب، وعندما أقرأ أسمع صوتَه يحكي، وأتخيله زائرًا جاء خصوصًا من مكانٍ بعيدٍ ليجلس أمامي. يحكي ويحكي وأنا أتشوق للمزيد.

يقولون إن الحياة واحدة. يا إلهى! إن الحياة قطعًا بعد قراءة بعض كتب السيرة الذاتية المُلهمة لا تبدو واحدة. فالحياة بها زَخَمٌ لا علاقة له بالأحداث بقدر ما له علاقة بالرؤى والفِكر والشخصيات. عندما تقرأ “مذكرات مصطفى محمود“، و”مقالات أبي” التي كتبتها ابنته عنه في مجلة “صباح الخير” ، وترى ذلك المُتأمل المفكر البسيط الحالم العالِم المُتلاشي في معرفة الخالق، يحكي عن حياته ومحنة مرضهِ التي صنعت منه كاتبًا، وزواجهُ الذي لم يستمر، وتعامله مع أولاده، وتلك اللمحة التي جعلته يفكر: هل سألقى الله بكلامي؟! فأين أفعالي؟! وجاءته تلك الإشارة التي جعلته يبني مسجد وجمعية د. مصطفى محمود، القائمة حتى يومنا هذا.

وعندما تقرأ حياة “جلال أمين” في كتاب “ماذا علمتني الحياة؟“، تجده يحاول أن يجاوب على هذا السؤال معك، بعرض كل مشاهدات حياته، والعجيب أنني بعد أن انتهيت من الكتاب، رَسَخَت في ذهني تجربةٌ واحدة  فريدة، وحالة عجيبة حكى عنها “جلال أمين” في الكتاب، وهي حكاية أخيه الأكبر الذي أصابته أزمةٌ نفسيةٌ ما، فاستقال من وظيفته في الجامعة، وباع سيارته، وتخلص من كل الخدم في منزله، وقاطع الصحف ونشرات الأخبار، وظل أربعين عامًا من عمره يحيا حياةً بسيطةً، محورها الموسيقى والرياضة وقضاء احتياجات منزله البسيطة، وبعض التجمعات العائلية الخفيفة، حتى مات، وكأنه قرر أن يقضي ما تبقى من عمره هادئًا بعيدًا بقدر ما يستطيع عن كل مسببات القلق.

وظللت أتساءل: ما الذي يمكن أن يحدث ليجعل شخصًا في ذروة الحياة والنجاح يتوارى جانبًا بحزمٍ وإصرار ويسدل الستار؟!

السيرة الذاتية في الأدب العالمي

أما السيرة الذاتية في الأدب العالمي، فلها صفةٌ مختلفةٌ عن الأدب العربي، ألا وهي الصراحة التامة التي تبدو اعترافًا أكثر منها حَكيًا، ككتاب “باولا” الذي يعتبر كتابَ سيرة ذاتية للكاتبة التشيلية “إيزابيل الليندي”، تلك الكاتبة المُحِبة للحياة، والتي كلما وصلت حياتها إلى حائطِ سد، استدارت لتبدأ من جديد.

وتحكي “إيزابيل الليندي” في كتاب “باولا” عن كل مراحل وأخطاء ومنحدرات حياتها بشكل صريح جدًا، ففي الغرب يُقدِّرون الاعتراف بالخطأ والمجاهرة به، أما في الشرق فلدينا ثقافة الستر هي الأكثر رواجًا وقبولاً لدى القراء.

وفي مقدمات كتب السيرة الذاتية العربية، يشير العديد من الكُتّاب إلى أنهم يفضلون أن يَقُصّوا ما يمكن أن يفيد القارئ أو يُلهمه بشكل ما، ويتجنبون ما قد يؤذي المقربين أو لا يفيد القارئ في شيء. ولكن أنا شخصيًا لا أتوقف كثيرًا عند هذه النقطة، فأعترف بأنني لا أريد أن أعرف شيئًا صادمًا للغاية أو غريبًا أو شاذًا، فيكفيني أن أعرف أن هناك ما لم يُحكَ، وأن كل حياةٍ بها تجويفٌ خاصٌ من المرارة والأخطاء.

ولكنني أبحث في هذه الكتب عن المعاناة وإن لم تُعرض كاملةً.. عن الاستنتاج الأوحد الذي يخرج به كل إنسان من الحياة. عن حيواتٍ أخرى حقيقية وتجارب بعيدة عني قد لا أخوضها يومًا، أبحث عن مشاعرٍ صادقةٍ شعر بها أشخاص من لحمٍ ودمٍ وقلبٍ على هذه الأرض، وقد يكون هذا هو ما يجعلني أقتني كتب السيرة الذاتية أكثر من الروايات، فكتب السيرة الذاتية هي رواية حقيقية، وفي الحقيقة جمالٌ وتأثيرٌ له طابعٌ خاص ينافس الخيال أحيانًا. كتب أبحث فيها عن حكاياتٍ من واقع الحياة، لعلي أجد لنفسي فيها طريقًا وحكاية.

اقرأ أيضًا: سيرة ذاتية نسائية: 6 كتب تمنحك الهدوء والسكينة

المقالة السابقةستات بالدنيا: مبادرة لدعم نساء خرجن عن المألوف
المقالة القادمةالجمال بين الألم والأمل
كلامنا ألوان
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا