بريد الذكريات: ماضٍ يتجدد

1333

بقلم: أحمد حسني

تمر الأحداث كثيرة على بني الإنسان، فمن بين فرحٍ لا يدوم وحزن انتفت عنه صفة البقاء، يظل ذلك المخلوق مُتيّمًا بمجموعة من الأحداث أثرت فكره وشكَّلت روحه. مَن يا تُرى هز أعماق محمود درويش حتى تنفجر ينابيعه فيقول  “أحنُ الى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي، وتكبر في الطفولة يوم على صدر يومٍ وأعشق عمري، لأني إذا متُّ أخجلُ من دمع أمي”؟! هل حنينه إلى أمه أم إلى لحظات لا تعود جمعها مع أحبابه وخاصته؟ وكم هي عجيبة تلك الذكريات ! فحنين بعضهم إليها يستميله لاستعادتها ومشاهدتها في كل وقت، بينما تلك الذكريات المؤلمة والتي لا تجر إلا الأحداث الصعبة تُملي عليه ألحانًا حزينة يتمنى لو لم يدركها في زمانه وماضيه.

ولا يمكن تعريف الزمن ومركزية الإنسان فيه دون أن يشتمل على بصمات الدهر وسياقاته المتعددة، فمن منّا لا يحمل حنينًا لأوقات محددة يترجى ربه ألا تتجاوزها عقارب الساعة! تلك الأيام العامرة بالذكريات الجميلة والتي تُمثل مَعْلمًا داخل النفس البشرية لكل إنسان، فاليوم الأخير من المدرسة والتي تتركها فيه، بالتأكيد لن يكون كغيره من الأيام، إنها حاوية الصداقات الأولى والفطرة النقية التي لم تمتد إليها يد الزمن لتلوثها بالمصالح والمنافع، ولَكم جال بخاطري كلما هممت بالعودة إلى بيتي أن أسير من ذلك الطريق الذي كنت أسلكه في صباي وأنا عائد بعد الظهيرة ومفعم بشعور الحب والامتنان لكل ثانية مرّت عليّ وأنا أتجاوز هذا الطريق، ويعزّ على فرد نشأ وتربى في مجتمع قليل الحداثة من مظاهر التمدن وانتشار المصانع وما يصاحبها من تلوث للهواء بالعوادم، أقول يعزّ أن يبتعد عن كل ما هو أخضر من أراضي وحقول وهواء نظيف وبيئة ساكنة تتضرع لربها في كل وقت.

أتذكر جيدًا تلك الأيام التي كنت أجلس فيها وحيدًا ومرمى بصري سابحٌ في ملكوت فسيح من الزروع القصيرة والأشجار الفارهة التي تحيط بي وأستند إليها، وفي تلك اللحظة لن يجد عقلك بصفو ذهنه إلا التدبر، وكما يقال فالإنسان ابن بيئته، فهذه البذرة التي غرستها في أرض صالحة غزيرة الإنتاج لن تكون كغيرها التي وضعتها في أراض قليلة الخصوبة سيئة المنبت، حتى السلالات التى تستورد لتزرع في أراضِ جديدة لن تعطي نفس الشكل الأصلي لموطن نشأتها وزراعتها، والفكرة وإن أتت من مجتمع اّخر ستتحول وتأخذ شكلاً جديدًا في غيره، وهكذا، فإن كل فرد يتموضع في إطار روافده وتجاربه القديمة والتي تغذيه بكل القيم التي يتعامل بها مع مجتمعه.

الذكريات تحتل موقعًا فريدًا في تشكيل وجدان الإنسان وذاته، فهي الدروب المغلقة والطرق الضيقة التي خرج منها نور الأمل ليكمل بها طريقه، وكثيرًا ما تنامى إلى أسماعنا قصص لمشاهير المجتمعات من خلال قصّ حكاياتهم وشغفهم، والذي يلخص تجربتهم في الحياة، ولذا فالماضي بما يحويه يأتي في مرتبة متقدمة من مرتبات الأرشيف القومي للأمم والمجتمعات على اختلاف مستواها بين الأفراد والجماعات، فتجارب الناجحين والرموز الوطنية والتضحيات التي يبذلها البشر، في سبيل الحفاظ على أمتهم بالعلم والعمل، كلها نماذج تنتقل من جيل إلى اّخر عبر القصّ والرواية من مخزون الذكريات.

ولأهمية تلك الذكريات، فقد أوليت العديد من الدراسات والبحوث أهمية خاصة بتلك النماذج الحسية المتعلقة بالإنسان، فلو نظرنا إلى المرأة ومرورها بآلام الحمل والولادة فإننا لن نعدم أقوالاً من طبيعة “لن أكرر تلك العملية ثانيًةً“، نظرًا للآلام التي مرت بها والصعوبة التي تكبدتها لإنجاب طفلها، وما هي إلا سنوات قصيرة حتى تكون على استعداد لاستقبال مولودها الجديد! وقد يدفعنا ذلك إلى التفكير بتلك العوامل الظاهرة منها وغير المعروفة، والتي كانت سببًا لإعادتها الكرّة مرة أخرى.

فمن وجهة نظر بسيطة، يمكننا أن نستخلص أن نسيان المرأة آلام الولادة يمكن أن يتم إذا نجحت في التخلص من التكاثر وطبيعتها الفسيولوجية، وغيره مما يصعب تصوّره، أما التفسيرات العلمية فتخبرنا أن المرأة تنسى على أي حال، لأنه ليس معروفًا على وجه التحديد وعلى مدار عملية الولادة ماهية الانطباعات والذكريات المؤلمة أثناء المخاض، بالإضافة إلى ذكريات الألم التى تبقى عالقة في الذهن وغيرها، التي تختفي مع الوقت ولا يصبح لها وجود” إذًا فذكريات المرأة خلال الإنجاب دفعتها لتشكيل استجابة معينة لكل موقف مشابه في الحياة.

ولقد كانت الذكريات على اختلاف أشكالها موضع اهتمام من قِبل المختصين، حيث لجأ البعض إلى تصوّر الإنسان بدونها، ولكن أحيانًا يلزم البعض أن يمر بمواقف مؤلمة لتجنب الآثار السيئة الناتجة عنها في المستقبل، فعندما يشعر الإنسان بألم في إصبعه ويتذكر أنه أصيب في تلك اليد أثناء فتحه علبة معدنية عن طريق الخطأ، لأخذ الحيطة فيما بعد لكيلا يكرر نفس الخطأ، وما ارتطام أصبع القدم في أحد الأبواب إلا نموذج مشابه لما نتحدث عنه، وفي ذلك يقول الكاتب العلمي إد يونغ إن ذلك الألم الذي نتذكره في تلك اللحظة يعمل على تدعيم الصلات بين  الخلايا العصبية في الدماغ، حين نتعلم أحد الأمور الجديدة.

إن الذكريات كانت ولا زالت من محددات السلوك البشري، وعنصر رئيسي في تكوين انفعالاته واستجاباته لكل ما يجدّ عليه ويواجهه، إلا أنها كما يقول الدكتور أحمد خالد توفيق رحمه الله: “بضاعة لا قيمة لها إلا في خزانة أصحابها”.

اقرأ أيضًا: اغتسل من ذكرياتك.. إن استطعت

المقالة السابقةفي عالم الوحدة
المقالة القادمةعندما تأتي اللغة
مساحة حرة لمشاركات القراء

3 تعليقات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا